نعود في هذا العدد إلى "المراهقة" كمرحلة تهدد التحولات الكبرى في مجتمعاتنا، بحروبها وانقساماتها وآفاقها شبه المسدودة، بأن تزيدها تعقيداً ومخاطر بدلاً من أن تكون مرحلة التطور بأمان وآمال ومتعة.
في المقالة التالية، نختزل البحث الذي أعدته الإخصائية والمدربة ريتا مرهج (جامعة الهاجيزيان، بيروت) لورشة الموارد العربية عن ثلاثة من أبرز الجوانب التي تَسِم هذه المرحلة المهمة: الهوية والمخاوف والاختلاف. أنها الجوانب التي تقرر طبيعة "خلطتها" ما ينتظر المراهق اليوم في فرص ومستقبل.
النص الكامل: يمكن الاطلاع على النصوص الكاملة عير الروابط التالية: البحث عن الهوية الاختلاف و تقبّل الآخر مخاوف المراهقين
الجانب الأول:
البحث عن الذات وتكوّن الهوية!
-
في فترة المراهقة تبدأ رحلة مميزة لاستكشاف الذات الداخلية وتكوين الهوية من خلال إعادة نظر عميقة في كل العوامل والخبرات والمعتقدات التي سادت مرحلة الطفولة، ويتم ذلك بالتوافق مع التغييرات الحاصلة على الصعيد البيولوجي والفكري والاجتماعي.
-
صحيح أن عملية البحث عن الهوية لا تخلو من التحديات والصعوبات، إلاّ أنها في الوقت نفسه فرصة ضرورية أمام المراهق لاكتساب العمق والنضج والحكمة، وللتعرّف على مواطن القوة الكامنة في داخله واستثمارها بشكل ايجابي.
إنها مرحلة المغامرات والاختبارات المثيرة، وهي مرحلة ممتعة في الاستكشاف الذاتي.
-
بالرغم من الصعوبات التي يواجهها مراهقو الأغلبية غير المحظوظة (من جودة التعليم وانعدام فرص العمل، إضافة إلى المشاكل الأمنية التي يعيشها الشباب في البلدان المعرّضة للحروب والنزاعات المسلّحة).
-
إن التأقلم مع هذه الصعوبات قد يساهم إلى حد كبير في بناء الصلابة الذاتية لدى هؤلاء المراهقين، بخاصّة إذا وفّر المجتمع الجو المناسب لتطوير ابداعاتهم وقدراتهم، والفرص للمشاركة الحقيقية في أخذ القرارات المتعلّقة بحياتهم.
-
هذا النوع من الدعم الاجتماعي يساعد هؤلاء المراهقين في مواجهة والتعامل مع الخوف من المجهول (المستقبل) واليأس الناتج عن الظروف الصعبة التي يعيشونها، وفتح أبواب الأمل نحو غد أفضل.
المراهقة: رحلة شيّقة إلى أعماق الذات وصفت المراهقة بالمرحلة الصعبة، بالعاصفة، بمرحلة التمرّد والأزمات المتتالية... هذه النظرة تعود إلى القرن الثامن عشر، حيث نرى في كتابات الفلاسفة وعلماء الاجتماع آنذاك، وأشهرهم "جان جاك روسو" ،وصفا˝حادّا˝جدا"بسلبيته لمرحلة المراهقة ولشخصية المراهق: "مثل هدير الأمواج الذي يسبق العاصفة، هكذا تأتي همسات العواصف المتصاعدة لتنذرنا بالخطر الآتي من التغيرات المزاجية، نوبات الغضب المتكاثرة، التقلبات الذهنية المستمرة التي تجعل الولد خارج سيطرتنا، لذلك يجب أن تضع يدك على الحزام قبل أن تفقد كل شيء" |
-
تكوين الهوية: من الاستكشاف إلى الالتزام
يرى الباحثون أن عملية تكوين الهوية تختلف من فرد إلى فرد، من مجتمع إلى مجتمع ومن ثقافة إلى ثقافة، فلن تتكوّن هوية متماسكة إلاّ نتيجة تفاعل توافقي للفرد مع ماضيه وجذوره العائلية وخبرات الطفولة في شتّى المجالات من جهة، وبينه وبين تطلّعاته المستقبلية ضمن الفرص المتاحة له والحدود الواقعية لطموحاته الشخصية من جهة أخرى.
-
"من أنا؟"
إن العمل الذهني الذي يقوم به المراهق يعكس رغبته في رسم استراتيجية جديدة لنفسه، استراتيجية من اختياره هو لا من اختيار الراشدين، وهذه الاستراتيجية تتمحور حول السؤال الجوهري: من أنا؟ إضافة إلى التساؤلات العديدة حول المنحى الذي سيتخذه مستقبله (النجاح أو الفشل في المدرسة، التطلعات المهنية، التعليم الجامعي، التوظيف، الزواج، المسؤوليات العائلية...).
-
البحث عن الهوية والمراهقة "الكونية"!
-
إن فهم عملية البحث عن الهوية لدى المراهق يعتمد على نظرة تطورية شاملة، فالتطور الذهني لا يحصل بعزل عن العوامل البيئية والثقافية التي تحيط بالمراهق، أي الإطار الاجتماعي والثقافي والسياسي الذي يتحرّك فيه، وهذا الإطار قد اتّسع اليوم إلى حدود غير مشهودة من قبل، ما يجعلنا نتكلّم عن "ثقافة المراهقة" الكونية:
-
إن مفهوم المراهقة اليوم شهد تحوّلا مهماً: من مفهوم مبني على صورة المراهق التائه، المتمرد، الثائر على مجتمع "جامد" ورجعي، إلى صورة مطّاطة ضمن عالم أكثر انفتاحاً ومرونة ، في ظلّ ظاهرة العولمة التي تجتاح العالم.
-
المراهقة "الكونية"
أدّت العولمة إلى انشاء إطار "كوني" للمراهقة، بدءاً من المظهر الخارجي للمراهق وصولا˝ إلى نمط العيش والاهتمامات والتطلعات.
-
فالمراهقون في كل أنحاء العالم يشبهون بعضهم البعض:
-
وكأنهم يشكّلون قبيلة كبيرة مع طقوس وتقاليد خاصة بها.
-
في اللباس.
-
في لغة التواصل بينهم.
-
العوامل المؤثّرة على تكوين الهوية
-
إن التقييم الذاتي لدى المراهق يتأثّر بشكل مباشر بهويته الجنسية الاجتماعية ومستوى أدائه الأكاديمي وعلاقاته الاجتماعية والجماعة التي ينتمي اليها.
-
هناك إجماع على التأثير الكبير لشعور المراهق/ة، حيال مظهره/ا الخارجي على مستوى تقديره/ا الذاتي، يليه شعوره حيال نظرة الآخرين (الأقران) له: عموما˝، يتّخذ التقدير الذاتي منحى˝ ايجابيا˝ عندما يشعر المراهق أن أقرانه يتقبّلونه.
-
الهوية الجنسية الاجتماعية
-
منذ الولادة، يتعلم المراهق السلوك الاجتماعي المطلوب منه حسب جنسه وهذه التعاليم تترسّخ بشكل عميق في ذهنه وتؤثّر على نظرته إلى نفسه وإلى الآخرين:
المطلوب من الذكور أن يتصرّفوا باستقلالية وأن يستخدموا المنطق وأن يكونوا طموحين، عكس ما هو مطلوب من الاناث، أي الاعتماد على الآخرين (على الأقوى، أي على الذكور!)، استخدام العاطفة على حساب المنطق، والتصرّف بلطف وعطف.
-
الإنتماء للجماعة
مفهوم الإنتماء يبدأ عند الإنسان منذ مرحلة الطفولة الوسطى (سبع سنوات) من خلال الممارسات والتقاليد العائلية والإحتكاك المباشر مع الجماعة المحلية للطفل، ليتبلور خلال فترة المراهقة ضمن إطارين محدّدين:
-
الأول: مع نضوج القدرات العقلية لدى المراهق وبروز الميل إلى النقد الذاتي وتقييم الآخرين، يدخل المراهق في مرحلة المراجعة الذاتية والمساءلة والتأمّل التي تتميّز بالكثير من الاستكشاف والقليل من الالتزام
-
الثاني: تنتهي هذه المرحلة الاستكشافية ليسلك المراهق إحدى هذه المسارات:
-
يبعد ويعزل نفسه عن أصوله ( الميراث العائلي، المعتقدات الدينية، الانتماء السياسي للعائلة، إلخ.)
-
يعتمد هوية تدمج بين ميراثه الشخصي من جهة، وخصائص المجتمع الأوسع من جهة أخرى
-
يتبنّى هوية مزدوجة تتبدّل فيها الأدوار والخصائص حسب متطلّبات الظرف الاجتماعي الراهن
-
يلتزم التزاما˝ كاملا˝ وشاملا˝ بأصوله وجذوره إلى درجة التعصّب والانعزال
-
أن المراهقين الذين ينجحون في تطوير هوية عِرقية دامجة لخصائص إرثهم الشخصي وخصائص المجتمع الأوسع معا˝، يتحلّون بصحّة نفسية أفضل من زملائهم المراهقين من الفئات الثلاث الأخرى.
-
هوية الإنسان متعددة الأوجه: قد ينجح المراهق في الوصول إلى التزام كامل في بعض هذه الأوجه وقد يحتاج إلى المزيد من الوقت لتحقيق ذاته في أوجه أخرى. وهذا ما يُلمس في المجتمعات المختلطة وفي مجتمعات الاغتراب حيث تتساكن ثقافات وإثنيات متعددة ومتداخلة تحيط بالمراهقين وتدفعهم إلى أحد المسارات أعلاه.
-
تلعب البيئة العائلية الثقافية للمراهق دورا˝ أساسيا˝ في تكوين الهوية ، ويشمل ذلك نوعية العلاقة التي تربطه بذويه: كلّما كان أهل المراهق داعمين له في مسيرته بحثا˝ عن هويته، ومتقبّلين لتساؤلاته ومتفهّمين لنقده وآراءه، كلّما شعر المراهق بالأمان والطمأنينة وتزوّد بالثقة اللازمة لاختيار المسار الملائم لتكيّفه النفسي والاجتماعي ولطموحاته المستقبلية .
-
الأداء المدرسي
-
ان شعور المراهق بالنجاح أو الفشل في المجال التعليمي يرتبط مباشرة بالصورة التي يكوّنها عن نفسه والتي هي بدورها تؤثّر على مفهوم الهوية عنده: هل أنا انسان قادر؟ فاشل؟ هل أستطيع القيام بهذه المسؤوليات؟ لماذا لا أستطيع؟ ما هي مشكلتي؟ ما هي نقاط قوتي؟ هل لديّ قدرات تؤهّلني للمستقبل؟ أي مستقبل أتصوّر لنفسي إذا لا أدرك قدراتي؟ كيف أتعرّف على قدراتي؟ لماذا أختلف عن الآخرين؟ هل أنا راضٍ عن مستوى أدائي؟ هل أستطيع أن أكون أفضل؟ لماذا أريد أن أكون أفضل؟ إلخ...كلها تساؤلات تجتاح أذهان المراهقين في مرحلة مليئة من الاستحقاقات المهمّة في حياتهم، ألا وهي الامتحانات الرسمية التي سوف تقرّر مصيرهم التعليمي أو المهني أو امتحانات الدخول إلى الجامعات ومعاهد التعليم العالي.
-
من ناحية أخرى، هناك الكثير من الشباب الذين لا يتمتّعون بالذكاء الأكاديمي بالمعنى التقليدي والمطلوب للإنجاز المدرسي الناجح، لكنّهم يتحلّون بنوعية ذكاء مختلفة، كالذكاء العاطفي الذي هو، باعتراف جميع الخبراء النفسيّين، أهم أسباب النجاح في الحياة العملية والاجتماعية، أو الذكاء الجسدي الذي يتجلّى في المهارات الرياضية المتفوّقة
-
العلاقات الاجتماعية
-
يتأثّر المراهق بشدّة بنوعية الأصدقاء الذي يحيط نفسه بهم، بقيمهم وسلوكياتهم، وبما أن المراهقين يمضون وقتا˝ أقل مع أعضاء أسرتهم، يكتسب الأصدقاء أهمية كبيرة في حياتهم، وهذه العلاقات خارج نطاق العائلة قد تكون إيجابية لمصلحة المراهق، أو سلبية ومضرّة لسلامته الشخصية كما لمستقبله.
-
في أفضل الحالات، تساهم هذه العلاقات الاجتماعية في تطوّره النفسي وفي تطوير مهاراته الاجتماعية، وتقدّم له دعما˝ عاطفيا˝ مهما˝ خلال عملية النمو. يبحث المراهق في هذه العلاقات عن الثقة والتفهّم المتبادل والوفاء والشراكة.
-
تؤكّد الدراسات أن المراهقين الذين يتمتّعون بصداقات حميمة و داعمة لديهم نسبة أعلى من التقدير الذاتي ويتعاطفون أكثر مع زملائهم ويتميّزون بمستوى أداء مدرسي أعلى من المراهقين الذين يميلون إلى العزلة والوحدة .لكن في بعض الأحيان، قد ينجذب المراهقون إلى مجموعات من الفتية ذوي النفوذ السلبي والسلوك المعادي للمجتمع والانحراف ويكون ذلك، ولسوء الحظ، بسبب البيئة التي يترعرع فيها هؤلاء الفتيان وبسبب انعدام الاشراف العائلي الصحيح والخدمات الاجتماعية والصحية والتربوية الملائمة لتحفيز النمو الايجابي لدى الشباب.
5- المراهقون والاعلام
-
يشكّل الاعلام اليوم أهم أداة للترويج... وبالتالي وسيلة ضغط هائلة على السلوك الاستهلاكي، بخاصة لدى الأطفال والمراهقين.
-
يستخدم المراهقون هذه الوسائل للترفيه (مشاهدة الأفلام أو متابعة المسلسلات حسب "مواسمها")، أو للاثارة الحسية والتواصلية (الخدمات الاجتماعية مثل الدردشة أو ال"فيسبوك" وغيرها). لكن هناك مفعول آخر لهذه الوسائل على المشاهدين المراهقين، وهو يكمن في اللاوعي، إذ أن استخدام هذه الوسائل يساهم في:
-
تكوين الهوية.
-
تطوير السلوك الاستهلاكي في اتجاهات معيّنة.
***
الجانب الثاني:
بين الطبيعي والمختلف!
يحتاج المراهق إلى الكثير من التطمينات:
-
بأنّه "طبيعي"
-
بأن كل إنسان يختلف عن الآخر
-
بأن الاختلاف تميّز.
-
- لماذا يشعر المراهقون بالاختلاف
-
الاختلاف بسبب ظروف استثنائية
-
بسبب التفكير "المتمحور على الذات"
- بسبب القفزة النوعية في تطوّره الذهني (أصبح قادرا على التحليل المنطقي وفهم الأمور المجرّدة)
-
بسبب التغيّرات الجسدية
-
بسبب نمو المهارات المرافقة للنمو الجسدي والفكري
-
بسبب العوامل الاقتصادية، والاجتماعية، والدينية/ الطائفية، والثقافية التي تميّز الشباب عن بعضهم البعض:
-
الاختلاف بسبب المرض أو الإعاقة
-
الاختلاف بسبب الذكاء المتفوّق
-
الاختلاف بسبب تأخّر أو تقدّم عمر البلوغ
-
الاختلاف بسبب الهجرة أو الظروف الاستثنائية (هجرة، فقر...الخ).
-
الرغبة في الاختلاف عند المراهق
في كل الأحوال، إن الرغبة في الاختلاف لدى المراهقين موجودة بقوة في صميم بحثهم عن هويتهم، فهي:
-
رغبة طبيعية بل حاجة للتطوّر
-
تهدف إلى الاكتفاء الذاتي والاستقلالية المادية والمعنوية
-
من الحاجة للاختلاف إلى الحق في الاختلاف
إن حاجة المراهقين للتميّز والتفرّد والتعبير عن آرائهم ترتبط مباشرة بمسألة حقوق الإنسان، فحسب الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل (1989)، إن الحق في الاختلاف هو من الحقوق الجوهرية مثل الحق في حرية الفكر والوجدان والعقيدة وحرية الرأي والتعبير والبحث العلمي والأدبي والفنّي والثقافي.
في الإطار نفسه، تنص المادة 29 من الاتفاقية على أن يكون تعليم الطفل موجّها˝ نحو:
-
تنمية شخصيته ومواهبه وقدراته العقلية والبدنية إلى أقصى إمكاناتها
-
إعداد الطفل لحياة تستشعر المسؤولية في مجتمع حر، بروح من التفاهم والسلم والتسامح والمساواة بين الجنسين والصداقة بين جميع الشعوب والجماعات الأثنية والوطنية والدينية
-
أي أن يشكّل فضاء˝ للتجديد وأن يساعد المراهق على بناء هوية متفرّدة والمهارات الحياتية اللازمة لتحقيق الذات.
-
عالم جدير بالشباب: لا شيء عن الشباب من دونهم
-
إن بناء عالم جدير بالشباب يفرض إشراك الشباب أنفسهم في بناء هذا العالم، انطلاقا˝ من الشعار "لا شيء عنّا من دوننا".
-
الحق في الاختلاف في صميم مبدأ المشاركة
-
انطلاقا من المبدأ أن الشباب "هم مورد...وليسوا مشكلة"، يعتمد نهج التنمية الشبابية الايجابية، على "المشاركة" كشرط أساسي من شروط النمو والتنمية الفردية والمجتمعية، بهدف الوصول إلى عيش حياة ناجحة وسعيدة وصحية.
-
لتحقيق هذا الهدف، لا بد من مساعدة المراهقين على تطوير بعض الخصائص الجسدية والفكرية والنفسية والاجتماعية التي تسهّل التنمية الايجابية.
-
المشاركة حق من حقوق الشباب
إن الشباب يتعلّمون عن طريق الاستكشاف والاختلاط والتجارب، وكل ذلك يفترض مشاركة الآخرين، كبارا˝ كانوا أو صغارا˝، فتصبح المشاركة حاجة تطوّرية جوهرية في عملية النمو. وبما أن الشباب هم جزء أساسي من المجتمع، تصبح المشاركة حقا˝ أساسيا˝ لهم : حق كل واحد منهم أن يعبّر عما هو خاص به، ومهم له، من آمال وطموحات وآراء.
-
إن المشاركة تؤدّي إلى مجتمع متعاون، يؤمن بأن لدى شبابه قدرات ويتطلّع إلى المستقبل بثقة أكبر.
الجانب الثالث:
مخاوف المراهقين
نعم، إن الطريق وعرة أحيانا، والفشل وارد، والأخطاء كثيرة، لكن مزايا المراهقة أكثر بكثير! إذا عرف المراهق كيف يستثمر قدراته وطاقاته لمصلحته وكيف يتكيّف مع مجتمعه ، دون التخلّي عن تميّزه وفرديّته، وإذا نجح في المحافظة على نظرة تفاؤلية للمستقبل رغم الصعوبات التي تواجهه، فان كل الآفاق مفتوحة أمامه لتحقيق ذاته وخدمة مجتمعه على أفضل وجه...
-
تساؤلات المراهقين:
-
في ظل التغيّرات والتحدّيات التي يواجهها المراهقون، تظهر تساؤلات عديدة عما يحدث لهم من تحوّلات جسدية، وأخرى في مشاعرهم، وغيرها في مواقفهم الاجتماعية أو السياسية أو الثقافية أو الدينية، فيجد المراهق نفسه في حيرة من أمره:
-
كيف أتعامل مع نفسي ومع مَن هم حولي؟
-
هل ما أفعله صحيح أم خطأ؟ مقبول أم مرفوض؟
-
ماذا يخبّئ لي المستقبل؟ الخ.
ويرافق هذه التساؤلات شعور طبيعي بالقلق يختلف بأشكاله وحدّته بين مراهق ومراهق .
-
التخوف من التغيّرات الجسدية والفسيولوجية:
-
من الطبيعي جدا˝أن تتمحور معظم أفكار المراهق، بخاصة في المرحلة الأولى للمراهقة، على صورته الجسدية وكيفية التكيّف مع كل التغيّرات الجسدية التي يمر بها. وتتميّز هذه المرحلة بحدّة التقييم الذاتي، ما يثير أحاسيسه وتساؤلاته ومخاوفه .
-
من المهم أن يشعر المراهق أن ما يحدث له من تغير، إنما هو أمر عادي، متوقع ومقبول، وأن هذه التغيرات تحدث لكل الناس دون استثناء.
-
التخوّف من تحمل المسؤولية، وعدم النجاح فيها:
خلال مرحلة المراهقة، يبدأ الاستعداد النفسي لتحمّل المسؤوليات بالظهور: فالمراهق يعي تماما˝ أنه في صدد مغادرة الطفولة والدخول إلى عالم الشباب.. ومع أنه لا يزال قريبًا من والديه ويحظى بعنايتهما، لكنَّه في الوقت نفسه يشعر بأن الأمور باتت مختلفة الآن : فكما أن جسده وتفكيره ومشاعره في تطوّر مستمر، كذلك فان البيئة التي يعيش فيها أصبحت تفرض عليه متطلّبات جديدة تتناسب مع هذا التطوّر.
-
دور الاسرة:
تلعب الأسرة دورا مهما في مساعدة المراهق على تحمّل المسؤوليات
-
دور المدرسة:
تفرض المدرسة على المراهق متطلّبات جديدة ومتزايدة لتحضيره للأدوار والمسؤوليات الراشدة التي تنتظره.
-
التخوّف من عدم تقبّل الآخرين له:
إن قدرة المراهق على بناء الصداقات والانخراط في مجموعة من الأقران هي مؤشّر مهم لتكيّفه النفسي والاجتماعي. أمّا العزلة الاجتماعية وعدم القدرة على الاندماج والاختلاط بالآخرين قد تكون سببا˝ رئيسيا˝ للمشكلات والاضطرابات النفسية1.
-
أن الانتماء إلى مجموعة من الرفاق، بالرغم من أنه يشكّل مصدر اعتزاز ويخفّف من خوف التهميش أو الوحدة، إلاّ أنه قد يحدّ من الآفاق الاجتماعية و من اختبار علاقات جديدة متنوّعة واستكشاف أنماط عيش مختلفة من شأنها إغناء الشخصيّة والتجارب في الحياة.
-
التخوّف في مواقف الحوار والمواقف الاجتماعية:
مثل تسميع الدرس في الصف أو عرض مشروع على بقيّة الطلاب، أو الاجابة على أسئلة محرجة للأقارب في المناسبات العائلية الجامعة، أو مواجهة مدير المدرسة للدفاع عن رأي أو موقف ما... إن هذا النوع من المخاوف طبيعي جدا خلال المراهقة وهو ناتج عن رهافة شعور المراهق، وقلة التجربة والخبرة، ولكن التعرّض لمثل هذه المواقف ضروري لتطوير المهارات الاجتماعية والثقة بالنفس.
-
التخوّف من المستقبل ومن المجهول:
تتميّز حياة المراهق بمجموعة من الأسئلة في صيغة المجهول: من أنا؟ هل أنا طبيعي؟ هل يتقبّلني الآخرون ؟ هل سأنجح في دراستي؟ لماذا لا يتفهّمني أهلي؟ ماذا يفكّر بي أصدقائي؟ ما هو الاختصاص الذي سوف أختاره؟ ماذا أشتغل؟ هل سأتزوّج؟ ما هي مهنتي في المستقبل؟ ما هو هدفي في الحياة؟ ماذا يعد لي الغد ؟ الخ...
إنها جزء صغير من الكم الهائل من الأسئلة الوجودية التي يطرحها المراهق على نفسه.
-
إن الخوف من المجهول لدى المراهقين أمر عادي وهو شعور مشترك بين الجميع دون استثناء، وهو لا يعني استسلام سلبي للحياة، بل هو دافع لاستثمار الاستعدادات النفسية والعقلية والمهارات الاجتماعية والظروف البيئية المتاحة الممكن استثمارها اليوم لضمانة أفضل مستقبل ممكن.
-
المخاوف المعاصرة للمراهقين:
-
في عالمنا العصري، وفي ظلّ الحروب الدامية والمستمرّة والنزاعات المسلّحة والهجمات الإرهابية التي تشهدها بلدان كثيرة، وازدياد الكوارث الطبيعية المدمّرة ومشاكل التلوّث البيئي التي تجتاح كل أرجاء الأرض، يحذّر الأخصّائيون النفسيون من نشأة مخاوف جديدة عند المراهقين حول العالم.
-
إن وقع هذه المخاوف على توازن المراهق العاطفي يختلف من مراهق إلى مراهق ومن ثقافة إلى ثقافة:
-
فالثقافة التي ينتمي إليها المراهق لها دور أساسي في إدارة المخاوف التي تواجهه:
في المجتمعات الغربية حيث التركيز على الفرد، يجد المراهق نفسه وحيدا˝ في وجه المحن والصعوبات ، لكنه يستطيع اللجوء إلى شبكة الدعم والعلاج، ومعظمها خدمات مجّانية، التي تتوافر بكثرة في هذه المجتمعات (العيادات المتخصّصة، الخدمة الطبية، مؤسسات الدعم النفسي الاجتماعي).
-
أمّا المجتمعات الشرقية، فهي تركّز على الجماعة (الأسرة، القبيلة، المجتمع) بدلا˝ من الفرد، ويجد المراهق فيها مراجع كثيرة للّجوء إليها في أوقات الضيق والتأزّم (العائلة المباشرة، الأقارب، الأصدقاء، المراجع الدينية أو مؤسسات الدعم الخيرية). إن هذه المراجع تعوّض بعض الشيء عن النقص الكبير في عدد وجودة الخدمات المجانية في مجالات الرعاية الصحية والصحة النفسية والتعليم والسكن، الخ. لكن هذا الوضع بحد ذاته يزيد من قلق الشباب حيال مستقبلهم، بخاصة في البلدان الفقيرة حيث الفرص القليلة جدا للتعليم الجيد والعمل وتأمين المستقبل.
-
إلى جانب الفقر والحرمان الاقتصادي- الاجتماعي، هناك المجتمعات الممزّقة بالحروب والنزاعات حيث يعيش المراهقون أوضاعا استثنائية تتطلّب الكثير من الدعم والمساندة على جميع الأصعدة لمساعدتهم على تخطّي المآسي والتكيّف مع هذه الأوضاع وبناء الصلابة اللازمة للتطوّر الايجابي قدر الامكان.
***
1 سليم، مريم (2002) علم نفس النمو، دار النهضة العربية، بيروت.
علِّق