يعالج المقلان أدناه جوانب مختلفة من الآثار النفسية العميقة التي تنتج عن عقود من الاحتلال الاسرائيلي وسياسات الحصار والطرد والعزل والتيئيس.
-
الآثار النفسية المترتبة على "الغيتو" الذي تفرضه اسرائيل
لا يمكن اقتصار الآثار المترتبة عن بناء الجدار العنصري الفاصل والمشتت للنسيج البشري الفلسطيني، تحت جنح السياسة الاعتدائية المستمرة على الشعب الفلسطيني على الآثار الآنية اقتصادياً وسياسياً، وانما يجب الانتباه الى آثاره اللاحقة والمستقبلية الخطيرة، وترسباته العميقة على النفس الفلسطينية الفردانية والجماعية والديناميكية، على النسيج النفسي على المستوى العام.
يعاني الشعب الفلسطيني منذ سنوات من نوعين من الصدمة الناتجة عن الظروف المحيطة:
النوع الأول:
الصدمة (المستمرة منذ 1948) من الاعتداء المستمر الممنهج الذي يستهدف حياة الانسان الفلسطيني المتمثل بالقتل والانتهاك الجسدي والتعذيب والتنكيل والسجن. ويستهدف أيضاً النفس الفردانية والجمعانية من خلال الاعتداء على الشرف... كما يستهدف الممتلكات الفلسطينية وسلب وسائل العيش الكريم من مصادر زراعية وتجارية من خلال سياسة الهدم والتخريب والمصادرة للأراضي واقتلاع الاشجار.
أما النوع الثاني:
مرتبط بالصدمة الناتجة عن بناء الجدار القصري الفاصل وفرض العزلة الكاملة وحصار مئات الفلسطينيين داخل ما يمكن أن يوصف بالأدب السياسي العالمي "الغيتو" (أو المعزل).
لذا نرى أن أية أبحاث او دراسات عن هذه الظاهرة يجب أن تأخذ بعين الاعتبار خصوصية الحالة الفلسطينية بالرغم من وجود قواسم مشتركة بينها وبين حالات أخرى لشعوب أخرى في العالم عانت من الاحتلال والتمييز العنصري مثل جنوب افريقيا، ومجتمع السود في أمريكا. وبالرغم من وجود نقاط التقاء بين الغيتو الفلسطيني وغيتوهات أخرى فرضت على شعوب أخرى، فالغيتو الفلسطيني له خصوصيته، التي تلزم الباحث باتخاذ منهجية خاصة في دراسته وتناوله له.
حالة مدينة:
لنأخذ على سبيل المثال مدينة قلقيلية مثلها مثل الكثير من القرى والبلدات والخرب والمدن الفلسطينية. إذ يجبر اليوم في هذا السجن حوالي 41000 فلسطيني على العيش والتأقلم. فالحصار والعزلة والتشتيت المقصود عن الأقارب والأرض الزراعية والعالم الخارجي ينطبق على تعريف الغيتو العام الذي تعزل فيه مجموعة من البشر في مكان ناء وبعيد عن العالم الخارجي، كونها تنتمي الى عرق يختلف عن العرق الحاكم بهدف الحد من تطور هذه المجموعة الجسدي والنفسي والابداعي.
فالحالة القلقيلية انعكست في العزل السكاني بجدار يبلغ 8 أضعاف ذلك الجدار الذي هدمته الارادة الانسانية في برلين. هذا الجدار المكهرب في أجزاء منه ومرتفع أحياناً الى 8 أمتار في أجزاء أخرى، مع بوابات تفتح وتغلق بأمر عسكري محولة كل أرض تلتصق بالجدار الى منطقة أمنية خطرة، مليئة بالجنود المدججين بالسلاح ونقاط المراقبة.
الدراسات العالمية أشارت الى أن آثار الغيتو لا تقتصر على الحد من النمو الاقتصادي والاجتماعي فحسب لمجموعة المعزولين فيه، أثناء فترة العزلة والحصار فقط، وانما تتجاوزه لتمنع تطور الفكر والعاطفة للفرد والمجموعة، لفترة زمنية طويلة تمتد الى أجيال لاحقة. ففكرة الغيتو تتحول الى فكرة "مُذوَّتة" لدى الفرد والجماعة لتصبح مرجعية نفسية ونهج لأنماط التفكير والسلوك والتعامل مع الواقع.
مثلاً:
إن سجن طير لفترة طويلة من الزمن داخل قفص يحد من قدراته على التحليق، ولا يمكنه من الطيران بصورة طبيعية بعد فتح القفص، بسبب الدمار النفسي والجسدي والعقلي الذي قد يصيب هذا الطير طوال مكوثه في ذلك القفص، محولاً إياه الى طير عاجز ومضطرب عند التعامل مع الواقع الجديد.
وعليه فإننا نقول بأن الآثار المترتبة لسياسة العزل والحصار ليست فقط لتجويع الشعب وإنما لتطويعه. ومن ثم تحويله الى شعب دوني في قدراته الذهنية والعقلية.
ماذا يعني ذلك نفسياً؟
تنطبق معايير وتعريفات الصدمة النفسية (تراوْما) في الحالة الفلسطينية للأسرى المجبرين في البقاء داخل الغيتو الاسرائيلي، فالشخصية المضطربة نتيجة تعرضها لصدمة نفسية تتمثل بالتالي:
1- خلق طبيعة شخصية حادة وغير متكيفة للفرد.
2- نمط من عدم الثبات النفسي عاطفياً، وسوماتياً مما يؤدي الى احتقان المشاعر والافكار.
3- إعاقة قدرة الفرد على التفكير والحكم على الواقع، واختزال الفكر على الحياة الآنية والحفاظ على البقاء.
سقف التفكير لدى الفرد المعزول يصبح محدوداً وقدرته على التحليل والابداع وكل ما يتعلق بالعمليات الذهنية العليا يصبح بمثابة المستحيل وغير الوارد حتى بالحلم. حيث يكون الفرد في حالة من التشوش العام فلا يستطيع التمييز بين المهم والضروري وغير المهم.
إن تعريف الصدمة عالمياً ينطبق على الحالة الفلسطينية باستثناء اختلاف في أنماط السلوك الناجمة عنها، فإذا كانت الأنماط السلوكية السائدة الناجمة عن الصدمة عالمياً تظهر
-
بالإدمان
-
التصرفات الجنسية
-
إيذاء الذات وتعريضها للخطر
-
الانتحار.
إن المفاهيم والعقائد الدينية والاجتماعية الفلسطينية تعمل على توجيه سلوك الفرد الفلسطيني كرد فعل للصدمة لمسارات أخرى تشبه أو تختلف أحياناً مع النمط العالمي مثلاً نرى عندنا الأنماط السلوكية التالية:
· الرغبة الشديدة بالاستشهاد.
· اضطرابات سوماتية (أوجاع)
· كوابيس ليلية واضطرابات النوم
· القلق المزمن
· التهيج والاستنفار المستمرين
· العنف والمشاجرات الكلامية والجسدية المبالغ فيها
· ردود فعل صاخبة عاطفية ونفسية مقارنة مع الحدث.
· سلوكيات اندفاعية كالاعتداء على الأطفال بالضرب واستعمال الالفاظ النابية ورشهم بالماء وغيرها.
· لجوء قطاعات كبيرة من الشعب الفلسطيني الى اتباع طقوس دينية واجتماعية بشكل مبالغ فيه (مثل اقتصار الخروج من البيت على المناسبات الحزينة أوعدم الاهتمام بالتنفيس والتفريغ النفسي والجسدي، والجلوس لساعات أمام التلفاز لسماع الأخبار).
تلخيص وتوصيات:
من هنا يمكن أن نستخلص مما ذكر سابقاً حاجتنا لدراسات وأبحاث عميقة لفهم الحالة والنسيج النفسي للفرد والمجتمع الفلسطيني من أجل التصدي للآثار المدمرة الآخذة بالتوسع . ولذا فعلينا القيام بتدخل فوري في جميع المستويات ونوصي بالتالي:
1- تعبئة جماهيرية ومجتمعية واسعة من أجل التصدي لإمكانيات حدوث حالة تبلد وحالة (لا حول) لدى الفرد والمجتمع.
2- تكثيف المشاريع المؤسساتية في المناطق المحاصرة للتصدي للعزلة.
3- التركيز على مشاريع ثقافية وفكرية من أجل رفع سقف التفكير والابداع والحلم للإنسان الفلسطيني.
4- إثارة قضية الشعب الفلسطيني وصدمته المستمرة في جميع المحافل الدولية والانسانية.
(المصدر: بتصرف عن موقع المركز الفلسطيني للإرشاد القدس. من أجل صورة أوسع عن الصحة النفسية في المجتمع الفلسطيني يمكن العودة إلى كتاب د. ياسر العموري وأشرف صيام عن "الصحة النفسية في النظام القانوني الفلسطيني"، على موقع الناشر "ورشة الموارد العربية": www.mawared.org)
علِّق