ثورة الشباب وتحولاتها الثقافية

د. مصطفى حجازي

ها قد دخلت المجتمعات العربية في عصر التحولات والتاريخ المتحرك، بعد طول جمود في التاريخ الآسن الذي فرض على الأمة بإسم الإستقرار والحفاظ على ثوابت الأصالة. وها قد دبت طاقات الحياة في الجماهير بعد أن ظن المفكرون أنها تعاني من علل بنيوية تفرض عليها الإستكانة والتبعية والإنقياد. وظن المستبدون أن الأمر قد طوب لأجهزتهم الأمنية وممارساتهم القمعية التي تخمد الأنفاس، كي يتأبد حكم الكراسي ويتم الإستحواذ على خيرات البلاد ومقدراتها، والتصرف بها بمثابة ملكية خاصة خالصة. إنها ثورة الشباب الذي إعتقد الدارسون أنه إما خامل عاجز، أو عابث لاه، أو أنه عبء زائد عن اللزوم في مخططات التنمية الموهومة. ثورة فاجأت الجميع بما أطلقته من حيوية، وما حركته من قدرات هائلة على القول والفعل، وقلب موازين اللعبة التي بدت وكأنها أبدية. تفاجأت سلطات الإستبداد في الداخل، كما تفاجأت مراكز قوى السياسات الدولية. وبدلاً من التاريخ الدائري الآسن المكرر لذاته، إنطلقت حركية الحياة وطاقاتها الوثابة كي تحدث تحولات بنيوية في نظم القوى الحاكمة لمجتمعاتنا. وليس الامر مجرد تحول سحري من حال الى حال، مما ينشط في مخيال المقهورين والمهدورين، كما انه ليس كناية عن ظهور البطل المنقذ، او عودة الغائب المخلص الذي يرفع الغمة عن الامة. بل هو انطلاق للطاقات الحية التي تعرضت للاخماد عقودا طويلة بدا الامر معها وكانها غير موجودة.

انه بداية مخاض قد يكون عسيرا، وهو بالتاكيد محاط بالمخاطر المتكاثرة داخليا وخارجيا لانطلاق عملية بناء ونماء، من خلال فرض الادارة وممارسة القدرة على المواجهة، وانتزاع حق الوجود، واخذ زمام المبادرة لاسترداد انسانية الانسان المغيبة.

اننا لسنا بصدد مجرد مطالب بالخبز والحرية، بل بصدد تحول نوعي في استعادة الكرامة والاعتبار وحق الوجود ومرجعية الجماهير في الحيز العام، تلك الجماهير التي فرضت كيانها في المجال العام (الساحات والميادين والشوارع) الذي كان محرماً عليها ومصادراً من قبل الإٍستبداد، وكأنه حيزها الحيوي وحدها هي وأجهزتها الأمنية القمعية. قواعد اللعبة بصدد التغيير ما بين موازين السلطة التي أنست طويلاً لهيمنتها، وطاقات الشعب الحية. فلا السلطة، مهما إستفحل بطشها وقمعها، ولا الشعب مهما عظمت تضحياته سيعودان إلى ميزان القوى السابق. قد يكون ذلك هو التحول الثقافي السياسي المجتمعي الأساس، مع العديد سواه من التحولات. سنركز في هذا المقال على هذه التحولات وتبيان مداها وأبعادها. ولكي نفعل لا بد من البدء ببعض الإعتبارات المنهجية، والتحديدات المفهومية: ما هو مقصود بالشباب وما هو تحديده وما هي شرائحه؟ ما هو المنهج البحثي الذي نعتقد بضرورة توسله لمعالجة التحولات الثقافية؟ وما هو المقصود أساساً بتحرك الطاقات الحية؟ وهو كله يمهد للخوض في هذه التحولات التي نقول بها، فيما يتجاوز مجرد التحرك السياسي والمطلبي. وأما إطار البحث ومجاله فهو كل التحركات الجارية في العديد من البلاد العربية، وخصوصاً ثورتا تونس ومصر.


 

الشباب تحديده وخصائصه

يرد في قاموس محيط المحيط للمعلم بطرس البستاني ما يلي في مادة الشباب: شب النار أوقدها، وشب الشيء إرتفع ونما، وشب الغلام ويشب شباباً صار فتياً. أما في القواميس الأجنبية (إنجليزية، فرنسية) فليس هناك تسمية قائمة بذاتها للشباب، بل هناك مصطلح الحداثة Youth وهي الصفة التي تدل على الفترة ما بين المراهقة والنضج. المعنى اللغوي للشباب هو إذاً البروز والنماء وتوقد الإمكانات والطاقات الحية، وبدايات الخروج إلى الدنيا. وأما ديموغرافياً فالشائع هو إعتبار السن ما بين خمس عشرة سنة وخمس وعشرين هي مرحلة الشباب؛ وهو التحديد المعتمد دولياً وعربياً. إلا أن هناك تباينات على هذا الصعيد ترجع إلى كون الشباب ظاهرة محدثة على صعيد الدراسة والبحث. من الطريف مثلاً أن علم نفس النمو لا يفرد مرحلة خاصة للشباب قائمة بذاتها، كما يفعل في تفصيل دراسة الطفولة ومراحلها، والمراهقة وتحولاتها وأزماتها، حيث يتم الإنتقال مباشرة إلى الحديث عن مرحلة الرشد. ذلك أنه حتى وقت قريب نسبياً كان يتم الدخول في سن الرشد في مرحلة مبكرة عموماً (العمل والزواج).

أما الآن فلقد أصبح الدخول في العضوية الإجتماعية الكاملة (العمل المهني المنتظم، الزواج والوالدية والمشاركة في الحياة العامة) يتأخر بإضطراد لدى شريحة كبيرة من الشباب، مع ما يترتب عليه من إمتداد فترة الإعالة وأزمات البقاء خارج سوق العمل.

وهكذا تبرز قضية الشباب في عالمنا العربي بمثابة ظاهرة تسير بإتجاه التفاقم. إذ لم تعد مرحلة الشباب تقتصر على دراسة النضج العام (جسمياً، نفسياً، عقلياً، ومهنياً)، بل هي تطرح ذاتها على الصعيد الإجتماعي المهني الزواجي، أي منظور العضوية الإجتماعية مكتملة المقومات. وتبرز أزمة الشباب تحديداً في هذه الفترة المستجدة تاريخياً وإجتماعياً بسبب تزايد تبكير النضج العام من ناحية، وتزايد تأخير إكتساب العضوية الإجتماعية الكاملة من الناحية المقابلة، مع تزايد حدة وعي هؤلاء الشباب بواقعهم المأزمي نتيجة للنضج الأكثر تبكيراً، وولوج عالم العمل والعضوية الإجتماعية الكاملة الأكثر تأخيراً. ذلك ما يُعرَف مرحلة الشباب راهناً، ويجعلها تقفز إلى صدارة الإهتمام البحثي والتخطيط للسياسات الإجتماعية.

إننا بصدد حالة متزايدة من النضج المبكر على جميع الصعد، وخصوصاً على صعيد المعرفة والمعلومات والوعي بالواقع الذاتي في عصر العولمة. إننا بصدد جيل جديد يعرف أكثر من آبائه ومعلميه، ويكاد يشكل المرجعية لهم على صعيد تقنيات المعلومات وآفاقها اللامحدودة، والإتصال وطفراته التقنية، والإنفتاح على الدنيا المعولمة حيث يشكل جمهورها الأساسي إستهلاكاً وإستقطاباً. وهو ما دعانا إلى المناداة بضرورة إقامة علم خاص بالشباب قائم بذاته يدرس ظواهر الشباب المركبة والمعقدة التي لا يستطيع أي فرع معرفي بمفرده الإحاطة الكافية بخصائصها ومعطياتها. هناك حاجة إلى علم شباب قائم بذاته، على غرار علوم الطفولة والمراهقة والرشد، تتكامل فيه إسهامات العلوم النفسية والتربوية والإجتماعية والإقتصادية والسياسية والمعلوماتية والإعلامية والأنتروبولوجية. وهو ما ينطبق تحديداً على ثورة الشباب التي نحن بصددها والتي تحتاج، كما سنرى، إلى تكامل منهجيات كل العلوم الإنسانية.

إلا أن البحث في ظاهرة الشباب (وثورتهم بالتالي) تحتاج إلى مزيد من التمايز المنهجي. فلقد درجت العادة على الحديث عن الشباب وكأنه كتلة واحدة متساوية الخصائص والمقومات والحضور، وإطلاق التعميمات والأحكام، في إيجابها كما في سلبها على هذه الشريحة العمرية. إلا أنه إذا كان هناك وحدة على المستوى العمري، فإن هناك بالمقابل تعدداً على صعيد الخصائص والشرط الوجودي والخبرات والمواقف. هناك أربع شرائح شبابية تتمايز فيما بينها: شباب النخبة، الشباب المحظي، الشباب المكافح لبناء حياة كريمة، وشباب الظل. وتنطبق هذه الشرائح على كلا الجنسين (ذكوراً وإناثاً) على حد سواء (حجازي 2008).

أما شباب النخبة فيمثل تلك الشريحة المميزة التي حظيت بأفضل رعاية أسرية، وبأعلى مستويات التربية والتعليم والإختصاص المهني والإعداد للمستقبل. إنها تلك الشريحة التي حظيت بفرص بناء "هوية نجاح" ومفهوم إيجابي عن الذات والصحة النفسية، والتي تمثلت "ثقافة الإنجاز" التحصيلي، والتأهيلي المهني. تدخل سوق العمل عالي الإختصاص والمهارة في سن مبكر، وسرعان ما تصل إلى مستويات قيادية توفر لها إمكان بناء مكانة إجتماعية لائقة. إنها شريحة شباب ما فوق الأزمات بالمعنى الشائع، وهي الأكثر حظأً في خوض غمار العولمة والإستفادة من فرصها وأسواقها وإستهلاك تقنياتها. ولقد كان لها دور محرك هام في ثورة الشباب، من خلال الإعلام الإجتماعي، ويشترك في ذلك كلا الجنسين.

وفي المقابل هناك شريحة الشباب المحظي أبناء محدثي النعمة من اللذين كان لهم نصيب كبير من الإستئثار بثروات البلاد بوسائل عديدة ليس أقلها تقربهم من السلطان المستبد (مالك البلاد والعباد) وشراكتهم معه في مصادرة خيرات الأوطان. هذا الشباب المحظي، شباباً وشابات، يشكل الفئة التي تربت على التراخي في الضبط والمحاسبة وتدني الرعاية الأسرية في مقابل إغداق العطايا المادية بمثابة رشوة تمثل البديل لهذه الرعاية. لم تتعلم معنى الجهد ولا ترى من ضرورة للإعداد والتكوين، طالما أن ثروة الأسرة جاهزة. تعيش في الملذات الآنية والإستهلاك المفرط والفراغ الوجودي الذي تملأه بالإثارة على إختلافها، المشروعة منها كما غير المشروعة، في ظل حماية الأهل الذين يمارسون نفوذهم لدى السلطات حين يجنح هؤلاء الشباب في ممارسات يطالها القانون. لا شأن لهذه الشريحة لا بأزمات الشباب، ولا بقضايا الأوطان.

وأما الفئة الطامحة إلى الحياة الكريمة فهي التي تشكل كتلة ذات شأن، كما أنها موضع إهتمام الباحثين. إنها من أبناء الأسر المتوسطة التي تحظى برعاية والدية مقبولة، كما أنها تتابع تحصيلها في التعليم العام ما قبل الجامعي كما الجامعي. ونظراً لتواضع مستوى هذا التعليم في مختلف مراحله فإنها لا تحظى بالإعداد العلمي والمهني المتين الذي يمكنها من دخول سوق العمل بسهولة والتنافس فيه؛ ولذلك فهي تتعرض لبطالة الجامعيين. إنها تكد من أجل الإرتقاء الإجتماعي من خلال الدراسة ولكن تخيب آمالها حين تقع في البطالة؛ وهنا تظهر المأساة: وعي عال بما يجري في العالم حولها وقدرات محدودة على الإستهلاك وأخذ الحظ منه، وتأخر متزايد في الوصول إلى الأهلية الإجتماعية. هنا تبرز أزمات الشباب الذائعة في الإعلام والأبحاث. ورغم تمسكها بالإنتماء الوطيد إلى الوطن، فإنها تهمش عن مواقع المشاركة في الشغل على قضاياه وإيجاد الحلول لها. تشكل هذه الشريحة قوة فاعلة في ثورة الشباب الباحثة عن إنتزاع الحق في حياة كريمة، وتعيش درجة عالية من الإحتقان الوجودي الذي يتفجر حين تتحرك طاقات الحياة في الثورة الشبابية والجماهرية، يستوي في ذلك الشبان والشابات.

وأما شريحة شباب الظل فهي تتكون من أولئك المقهورين والمهدورين من الشرائح الشعبية الأكثر فقراً والأقل حظوظاً. إنها محرومة من التمدرس والتدريب المهني المؤهل للأعمال الحرفية المجزية. تعيش في حالة هامشية ما بين أعمال غير متمهنة وحالات من البطالة. تخرج من إهتمام الباحثين والدارسين لصعوبة الوصول إليها، بحيث تظل تلك الكتلة المهملة والمهمشة. إنها شريحة شباب الظل الذي يشكل وقود العنف في الإنتفاضات الشعبية. قسم منها لا يعيش مرحلة شباب إذا فرض عليه دخول عالم العمل في سن الطفولة المتأخرة للمساعدة في إعالة الأسرة. قسم آخر يشكل كتلة الناشئة غير المتكيفة إجتماعياً. إنها شريحة المجهول الأكبر الفائض عن اللزوم والذي يشكل الشباب العبء الذي تضيق به السلطات ذرعاً، وتقابله بالقمع والعنف.

تشكل هاتان الفئتان (الثالثة والرابعة) كتلة جمهور الشباب الذي يندفع مخاطراً بأمنه ومضحياً حتى بحياته في حالة ثورة الشباب وتحرك الجماهير.

تلك هي شرائح الشباب والشابات التي تتنوع شروطها الوجودية، وبالتالي يتطلب كل منها سياسات تدخل تلبي إحتياجاتها، كما أن مشاركتها في ثورة الشباب تتنوع بدورها. إلا أنها جميعاً تتطلع إلى إنتزاع الإعتراف بإنسانيتها، بعد تزايد إنغلاق سلطات الإستبداد على ذاتها ومحيطها الضيق، وبعد أن سجنت ذاتها في قصور مكونة من قاعات المرايا التي لا تعكس لها سوى مصالحها وتأزيل سلطانها، في حالة من تضخيم مفرط لنرجسيتها؛ بما يعميها عن رؤية الواقع الفعلي، ناهيك عن الإعتراف بالناس شيبة وشباناً.

إعتبارات منهجية في مقاربة ثورة الشباب:

تعددت الرؤى والمقاربات لثورة الشباب. هناك من ذهب مذهبا تاريخيا فربطها بسجل حافل من الانتفاضات النقابية والعمالية المطلبية و التي كانت ثورة الشباب هي التتويج لها. و هناك من انتحى منحى سياسيا فردها الى المطالبات المزمنة بالحرية السياسية، (حرية التجمع، وتشكيل الاحزاب، والنقابات و الهيئات، وحرية الصحافة والاعلام و الرأي و سواها)؛ مشيرا الى ضحايا البطش السياسي من النقابين والمفكرين و السياسين الذي فرغ الساحة من حضور المجتمع المدني و طاقاته الحية. وهناك من اعتبرها ثورة استعادة الكرامة وحقوق المواطنة السلبية من قبل السلطات. وركز اخرون على الافقار المنتظم والحرمان المادي فاعتبرها ثورة الخبز والحق في العيش الكريم. وهناك من ذهب مذهبا تحليليا نفسيا فاعتبرها ثورة الابناء الشباب على الآباء المقصرين المتخاذلين أمام المستبدين الذين أزلَوا سلطانهم. وهناك من ركز على افلاس أنظمة الإستبداد التي تحجرت و تصنمت وفقدت القدرة على إدارة شؤون المجتمع وسياسته، وكذلك أنظمة الإستبداد التي غرقت في الفساد و الإفساد ونهب ثروات الوطن هي وبطانتها، معتبرة البلاد مجرد مرعى لرعي خيراته، مما هو أبعد عن القول بالمزرعة التي تحتاج إلى خدمة طوال العام حتى تعطي موسم حصادها. وهناك من ربطها بتخلى قوى العولمة الإستعمارية المسيطرة عن زبانيتها من الحكام المحليين بعد طول حماية لهم، حيث أضحوا غير ذي نفع لها، فتخلت عن هذه الأوراق الخاسرة تحقيقا لإستراتيجية الفوضى البناءة، الهادفة إلى إعادة تشكيل المنطقة؛ لضمان المزيد من السيطرة على ثروتها ومقدراتها من خلال تجديد شباب حكامها. وهناك من حلل الإختلالات البنيوية في دول العالم العربي معتبرا إياها دولا متخلفة تفتقر إلى الإدارة المدنية وتكرس حكم الزعامات العصبية وخلق تركيبات زبائنية، وتفاوتات مناطقية فادحة صدعت بنى الوطن و أفقدته مناعته أمام إنفلات العولمة المالي؛ مما أوصل الإختلالات إلى حد تفاقم مأزق الحكم و إدارة الدولة و المجتمع، وجعل الأنظمة تتهاوى أمام زخم الإنتفاضات. ومنهم من قارن تهاوي النظام في تونس ومصر، بتهاوي أنظمة أوروبا الشرقية، من خلال كسر حاجز الخوف من الأبواب العالية و أجهزتها الأمنية القمعية. وتوسل اخرون مدخل تقنيات الإتصال الحديثة و إنتشار الإعلام الإجتماعي و قدرته الفائقة على الكشف و الفضح و التعبئة حيث فقد الإعلام المطوع كليا من قبل سلطات الإستبداد كل مصداقيته لدى الجماهير.

كل هذه المقاربات لها نصيبها من الصحة والمصداقية في تلمسها لجوانب مختلفة من ثورة الشباب. إلا أن مشكلتها تكمن منهجيا في أحاديتها، وبالتالي عجزها عن الإلمام بواقع هذه الثورات، ذات الغنى الفائق في مكوناتها وعواملها ودينامياتها وعملياتها ونتائجها. ولا واحدة من هذه المقاربات تستطيع بمفردها إستيعاب كامل هذا الغنى والدينامية والحيوية. ذلك أن هذه المقاربات الأحادية لازالت تتوسل النماذج المعرفية القائمة على العزل والفصل بين الإختصاصات. وهي نماذج موروثة من العصر الصناعي في المجتمعات الغربية حيث الحدود جامدة بين إختصاصات العلوم الإنسانية التي كانت تتسابق على توكيد إستقلاليتها من ناحية، وعلى القطعية فيما تقدمه من تحليلات وتفسيرات، مع إدعاء إحتكار الحقيقة من خلال إختزالها ضمن نطاق نموذجها المعرفي وحدوده وإدعائه بإطلاقية الصواب والأحقية في التفسير (أنظر مثلاً التعارض ما بين النموذج المعرفي الماركسي والنموذج التحليلي النفسي، والنموذج الإشتراكي والنموذج الرأسمالي)، وصولاً إلى إدعاء إستخلاص قوانين تفسير السلوك الإنساني بشكل قطعي، حيث ماعداها لا يعد وكونه مجرد إدعاءات ليست من العلم في شيئ. وكانت النتيجة أن أصحاب كل مذهب أو إختصاص أوقعوا أنفسهم في سجن مذهبهم، حارمينها من إنفتاح الرؤى. ولقد ورث علماؤنا ومفكرونا هذه النزعة الأحادية فيما يقدمون من تحليلات وتفسيرات، مما جعل الواقع في كل غناه وتعقيده يفلت منهم.

ومع أن العزل والفصل بين المذاهب هو في طور الزوال مع قدوم ما بعد الحداثة، وأن علوم المعرفة هي بصدد كسر حدود التخصصات، حيث بلغ الإختراق بين المذاهب مدى هاماً في العقدين الأخيرين (Payne,2004). إلا أن علماؤنا ومفكرونا لا زالوا متمسكين بما لغوه من منهجيات مقاربة وتحليل أحادية الرؤية، مما يهدد بالتخلف عن الركب.

لقد حملت العولمة معها ثقافتها الجديدة المتمثلة فيما بعد الحداثة، وكسرها لكل القوالب التقليدية في الفن والأدب والفلسفة، كما في العلم وتقنيات الإتصال والإعلام. ونسفت الحدود المكانية، كما أدت تحولاتها المتلاحقة إلى تسارع الزمان. وأدخلت العالم في حالة من الإعتماد المتبادل، وإنعدام اليقين. من كان يعتقد بإمكانية قيام ثورة شباب في كل من تونس ومصر، وسقوط نظامين راسخين ومتجذرين ومهيمنين بهذه السرعة؟ ومن كان يتوقع إنتشار الثورات في العديد من أقطار العالم العربي، وخصوصاً في تلك التي كانت السلطات فيها تتخذ شكل القدر المحتوم الذي لا خلاص منه إلا بالإستكانة والإستسلام؟ ومن كان يعتقد بإمكانية هذه التعبئة الجماهيرية الحاشدة والمجابهة بالصدور العارية والصوت الهادر، الرصاص الحي؟ ومن كان يظن بإمكانية تحول الخوف من الجماهير التي فرض عليها الرعب، إلى الأنظمة الراسخة في إستبدادها، وإلى أجهزتها الأمنية صانعة الرعب والموت؟ ومن كان يعتقد بإمكانية تعاظم ظاهرة الذكاء الجماعي التي وفرتها شبكات الإتصال والإعلام التي تنشر على مدى العالم في التو واللحظة، ما يجري في الشارع من مجابهات ومواجهات متزايدة الزخم ومتعالية الصوت؟ ثم من كان يتوقع أن يتولى الشباب الذي ينتمي إلى فئة النخبة وبعض الفئة المتوسطة قيادة هذه الثورة من خلال إمتلاكه لوسائل الإعلام الإجتماعي وتشغيلها؟ وبإختصار من كان يخطر بباله أن تنطلق طاقات الحياة وتتفجر وثابة لدى الجماهير التي تأبد فرض الإستكانة عليها، فتفرض ذاتها في الساحات وتسترد الحيز الحيوي العام الذي طالت مصادرة السلطات له، وتبدي مستويات مشرفة من التساند والتلاحم، والتنظيم، وإدارة أمور الساحات والميادين، وحراستها، وتلبية إحتياجات الصمود فيها، في حالة من تجاوز الصراعات الإجتماعية على إختلاف ألوانها؟ ثم من كان بخطر بباله أن تتصدر الشابات حتى المحجبات منهن عمليات المواجهة والنضال في الساحات، حيث لم يعد هناك من فارق ما بين فتى وفتاة ورجل وامرأة، وكبير وصغير؟

إننا فعلاً بصدد ظواهر ثورية بالمعنى الحرفي للكلمة، أي إنفجار التحولات. وهي ظواهر تحتاج إلى نموذج معرفي Paradigm جديد لبحثها تحليلاً وتفسيراً، يتجاوز النماذج المعرفية التقليدية التي ألفها مفكرونا وباحثونا، بحيث أصبح من غير اليسير عليهم تجاوزها والتخلي عنها، رغم أنها أصبحت محدودة الفاعلية في درس هذه الظواهر الثورية. هنا يتعين، كما يقول كون (1992) التحول إلى نموذج معرفي جديد أكثر فاعلية وقدرة على التعامل مع التحولات الجارية ووقائعها. وهو ما يتمثل في التحول من الأحادي الخطي إلى المتعدد الشبكي، ومن البسيط إلى المعقد. ولقد سبق لنا طرح ضرورة هذا التحول على مناهج البحث في علم النفس في عصر العولمة (حجازي، 2010). وقدمنا مثالاُ على ذلك قضية الشباب تحديداً. فهو في عين إعصار العولمة، وهو جمهورها ووقودها في آن معاً. هو اللاعب الأكثر قدرة على التعامل مع تقنياتها المستجدة، وهو في الأساس مخترع هذه التقنيات (فايسبوك، تويتر، يوتيوب إلخ...). إذ أن الذين طوروها هم في العشرينات من العمر، وخصوصاً مارك زوكربرغ مطور الفايسبوك الذي هو دون الخامسة والعشرين. وكان من رأينا أن علم النفس بمفرده غير قادر منهجياً على إستيعاب ظاهرة الشباب في عصر العولمة. فهي ظاهرة مركبة تتطلب تكامل علم نفس النمو والصحة النفسية، والتربية والتعليم والتوجيه المهني والإعلام، وعلوم الإقتصاد وأسواق المال والأعمال والمعلوماتية وتقنياتها، والنظم السياسية، وعلم الإجتماع والسكان والأنتروبولوجيا (حجازي، 2010).

نشأ علم التعقيد في الأصل في دراسات المناخ ذات الطبيعة التركيبية التفاعلية عالية الدينامية والتعقيد، مما يعرف بأثر الفراشة حيث تحولُ في مكان ما بسيط يؤدي إلى سلسلة كبرى، وقد تكون متعاظمة من التحولات على مستوى المناخ الكوني. ثم أخذت العلوم الإنسانية تتبناه تدريجياً. يقول إدجار موران، الفيلسوف وعالم الإجتماع أن فهم تعقيد الواقع يبدو ذو أهمية متزايدة مع تقدم الزمن. ويشير إلى ضرورة التأكيد على قدرة التعقيد على وضع كل شيء موضع التساؤل، حيث تشابك وتداخل العديد من المقومات التي يؤثر بعضها على البعض الآخر بشكل متبادل. كما أن علم التعقيد ينسف اليقينيات ويدخلنا في عالم الإحتمالات، ومعها ينسف الإستئناس (الذي ألفناه ونتمسك به) إلى الثوابت والحتميات التي نسبغها على تحليلاتنا وتفسيراتنا. أليس هذا هو في الواقع ما نعيشه من تساؤلات مشوبة بالقلق وعدم التأكد بصدد مصير هذه الثورات التي يشهدها العالم العربي راهناً. هناك ضرورة لمقاربات جديدة تتصف بالإنفتاح الفكري واليقظة الذهنية، والتنبه إلى المستجدات المتوالدة، والذهاب إلى ما وراء الظواهر لتلمس القوى الفاعلة تحت السطح. وهو ما يفرض التخلي عن فرض قوالب فكرية ومعرفية قديمة وجاهزة على واقع يمر بمرحلة عالية من الغنى والحركية. يتعين علينا فتح حدود ما ألفناه وتمسكنا به من نماذج فكرية، إّذا أردنا فعلاً تعاملاً فاعلاً وخصباً مع هذا الواقع الحي والمتحول.

خلاصة القول، أن كل التحليلات التي أشرنا إليها في مستهل هذا الحديث في المنهجيات، لها نصيبها من الصحة والجدوى المعرفية، إذا أدرجت بمثابة عناصر من نموذج معرفي شبكي يعمل من خلال دراسة تفاعلها ضمن كل معقد. وهو بالطبع نموذج معرفي يتجاوز الإسهامات الفردية على إختلافها. إننا بحاجة في دراسة ثورة الشباب وتحولاتها إلى فرق بحثية متعددة الإختصاصات التي تتكامل تحليلاتها فيما بينها، كي تستخلص الصورة الكلية عالية الغنى. آن أوان الخروج من قلاعنا الفكرية التي ينصب كل منا نفسه أميراً على واحدة منها، متمرساُ وراء أسوارها، بحيث نتحول إلى إقامة تحالفات بحثية تعاونية تكاملية، تبني نموذجاً معرفياً يتميز بالخصوبة والقدرة على الكشف. ذلك أن أطوار التحول الكبرى تتطلب تكيفاً فكرياً تغييرياً يلبي خصائصها واحتياجاتها. من ضمن هذا النموذج المعرفي المتكامل الأبعاد سنقوم في العنوان التالي بمقاربة تحليلية نفسية وجودية لبعض الدلالات التي أصبحت تشكل معالم بارزة من ثورة الشباب، بمثابة إسهام يضاف إلى سواه من الإسهامات في عملية متكاملة من الأغناء المتبادل.

ثورة الشباب وإطلاق طاقات الحياة:

هذه الثورة على درجة عالية من الغنى في أبعادها وقواها المحركة وعملياتها وإنجازاتها المفاجئة ورموزها ودلالات سلوكياتها وتحركاتها ذات المعاني المتعددة والمتداخلة، بما يجعلها تفلت من أي تأطير أحادي. تماماً كما تتنوع معاني الكلمات في اللغة تبعاً للسياقات والمقاربات.

نتناول بالتحليل النفسي الوجودي كل من الشرارة التي فجرت بركان الجماهير الكامن والمتمثلة في إشعال محمد بوعزيزي النارفي نفسه، وهو رمز من رموز عدة تكررت في بقية الساحات. ثم نتحول إلى آليات التعبئة التي قام بها الشباب مما أطلق طاقات الحياة لدى الجماهير، التي إرتفعت فوق عنعنات الإنقسامات والعصبيات والصراعات، صانعة تاريخها، الذي طال سلبه منها.

الرواية معروفة إلا أن دلالاتها أغنى بكثير من مجرد حادثة إحتجاج فردي. محمد بوعزيزي ذلك الريفي ذي التأهيل المهني والعاطل عن العمل يرتزق من خلال البيع على عربة على الرصيف بدون ترخيص، فيُصفع من قبل شرطية ويطرد من الموقع. يحاول الشكوى لدى مسؤولي المحافظة فلا يستجاب له، فيقوم بإشعال النار في نفسه. هذه واقعة ليست فردية مبتذلة، بل إنها أشعلت النار في الجماهير المقهورة والمهدورة والمحرومة والمهانة بشكل مزمن. ما هي الدلالات الوجودية لإشعال بوعزيزي النار في جسده علناً أمام مبنى المحافظة؟ ولماذا الإنتحار بإشعال النار؟ كان يمكن أن يلجأ إلى وسيلة إنتحار أقل مشهدية من الإنتحار بالنار، الأكثر ألماً ووحشية ومشهدية. إنها صرخة إحتجاج وإدانة حذرية للسلطات المستبدة: أنظروا ماذا فعلتم بنا وإلى أي جحيم أوصلتمونا!! لقد فعَل بوعزيز جحيمه الوجودي في فعل إشعال النار محولاً نار الجحيم الداخلي إلى جحيم مشهدي: إشهدوا على جحيمنا الوجودي من بطالة ومهانة وإستبعاد وحرمان. فعَل الإحتراق بالنار بما هي جهنم في الثقافة والتراث، وبما هي جهنم العيش، فجَر جهنم عيش الفقراء المقهورين والمهدورين (غير المعترف بإنسانيتهم ولا بحقوقهم) والذي إعتمل وتراكم طوال عقود من الإستبداد والحرمان التي حولت حياتهم إلى جحيم يشتعل في النفوس ويكويها من الداخل. كما أن فعل الإنتحار بما هو خرق للمحرم الديني هو دخول في الكفر الأكثر تعبيراً عن الفقر والحرمان (كاد الفقر أن يكون كفراً!!!)

تعرض بو عزيزي لإهانة كيانية فجرت كل إهاناته الوجودية المتراكمة (الحرمان من العمل وكسب الرزق، الحرمان من التواجد في المكان) من خلال صفعة الشرطية للقيمة الحميمية المتبقية له: قيمة الرجولة في مجتمع ذكوري حيث الرجل هو من يصفع المرأة، والطرد من الشارع الذي يدل التواجد فيه على قدرة الذكورة (في مقابل بقاء الحريم في البيوت خارج الحيز العام). صفعة الشرطية هي في المخيال الثقافي دوس على نواة الكيان، مما وضعه في حالة رد الفعل الحرج حيث لم يبق لديه أي آلية تعويضية تبريرية: إنه اللارجل، فكيف يمكن بعدها أن يواجه الزوجة والأم، حيث الرجولة تقاس بمقدار القدرة على تحصيل الرزق من خلال التواجد في المكان العام.

صفعة الشرطية وطرده من الشارع فجرت المتراكم من جحيم حرمانه وغبنه وقهره وهدره. هذه الصفعة والطرد قالت له أن لا مكان لك في الشارع، وبالتالي أنت لا شيء؛ إذ أنه من يمتلك المكانة يمتلك المكان، وبالتالي يمتلك قوة الحضور وإثبات الوجود. ماذا يفعل بعدما قالت له الشرطية أن وجودك هنا غير مشروع أي لا كيان لك، وكرست نزع هذا الكيان بالصفعة. ماذا يتبقى له من إعتبار في نظر ذاته ونظر ذويه والآخرين؟ الدلالات النفسية والحيوية الوجودية للصفعة والطرد إلى اللامكان تلقي بالكائن الحي في خطر الفناء. يقاس الأمن والقوة وبالتالي توفير إمكانات البقاء والتكاثر في عالم الحيوان من خلال إمتلاك مجال حيوي Territoire والقتال دفاعاً عنه. الحيوان الذي يهزم ويطرد من المجال الحيوي، من قبل منافس أقوى، مصيره الهلاك. ذلك هو أيضاً حال المهجرين والمنفيين والمقتلعين (أي أن يصبح الكائن بلا جذور تمده بالقوة والأمن وأسباب البقاء)، ومأساتهم الكبرى.

إنه الخصاء الوجودي المصاحب للتجريد من مقومات القوة الكيانية. تلك هي مأساة المهمشين؛ فأن تكون مهمشاً هو أن تكون مبعداً من الوجود في الحيز العام الذي يقتصر على الأقوياء وذوي الإقتدار، وذلك بصرف النظر عن مسألة العدالة الإجتماعية. وتلك هي مأساة بطالة الشباب اللذين لا مكان لهم في حيز المدينة العام. إنهم المطرودون من الوجود لأنهم مطرودون من إستحقاق التواجد في المجال العام. إنهم دخلاء على هذا الحيز وموضع شك وريبة، مما يفسر الميل إلى التخريب والتحطيم في التحركات المسماة شغباً.

المكان هو ملك السلطة وأجهزتها الأمنية، وإلا فما معنى منع التجمع إلا بترخيص. حق التواجد والتصرف والقول والفعل محظور على الجماهير المقهورة والمهدورة (الغريبة في ديارها). من هنا تبرز دلالة الشعارات التي أطلقت في الساحات العربية وخصوصاً شعار "إرحل يا علي، إرحل يا مبارك....". إنه إسترداد حق الوجود من خلال إسترداد ملكية المكان العام الذي صادره المستبدون طويلاً من خلال أجهزتهم العميقة. تعبير Degage الآمر والمصحوب بالصفعة من قبل الشرطية والذي نسف كيان بوعزيزي وفجر جحيمه، هو ذاته الذي عادت الجماهير الثائرة فرفعته في وجه بن علي، ومبارك وسواهما: هذا الحيز العام لنا، وليس لك يا من إغتصبته طويلاً. سلب المكان هو سلب الوجود، وإسقاط من سلبه هو إستعادة الجماهير لحقها في أن تكون مالكة لمجالها الحيوي. المستبد يلغي إمكانية وجود الشعب من خلال تكريس وجوده الوحيد هو. وإسترداد الحق في الوجود لا بد أن يتم من خلال الحشد والمواجهة في الحيز العام وإستعادة إمتلاكه. ذلك ما عبر عنه بدر خان علي في مقالته بعنوان:" المعضلة السورية المزمنة غياب الميدان العام"؛ حيث تم تفريغ المجتمع، على نحو شبه نهائي من المنظمات النقابية والأحزاب السياسية، والحلقات الثقافية المستقلة الفاعلة في المجال العام. تم تغييب "الميدان العام" كلياً بما هو ميدان من ينتجون السياسة والحياة الثقافية والنقابية والإجتماعية، حيث يصبح تغييب الميدان العام هو تغييب لوجود الشعب السياسي. (بدر خان علي، 2011). ومن هنا عبقرية الميدان التي هزمت بالسلم همجية القمع السلطوي، حيث تحول الميدان إلى ساحة المولد العظيم (في القاهرة ومصر عموماً) (درباس، 2011). أنه مولد الوجود بعد إستعادة الجماهير لملكيتها للحيز المكاني.

هنا تتداخل الدلالات في إمتزاج شعارات الخبز والكرامة من خلال الحرية وإستعادة ملكية زمام القول والفعل، وبالتالي المصير: أن نكون في الشارع ونمتلك الميدان هو أن نستعيد الوطن وحقنا في المواطنة. النزول إلى الشارع والإعتصام في الميادين وخصوصاً الميدان الرمزي الذي يمثل الحيز العام النواة في المدينة، حيث تصب فيه كل الشوارع والمسالك، ومعارك مواجهة أدوات السلطة القمعية التي طالما سيطرت على الميدان وعلى الحيز العام، هو تغيير للدلالة والمصير والميلاد الجديد.

لقد تم إيصال الجماهير العربية إلى الحالة الحرجة التي فجرت الجحيم الكياني معبراً عنه بإشعال بوعزيزي النار في جسده، وهو المشهد الذي ما لبث أن تكرر في أكثر من مكان، مما يدل على تعميم هذا الجحيم. ولذلك فليس غريباً أن تقوم الجماهير بهذا الشكل الحاشد الذي ضحى بالدم والروح بدون تردد، مما أخاف السلطة المستبدة فإنهزمت هي وأجهزتها، وإستعاد الجمهور كيانه وحقه في الوجود. ولقد تجلت عبقرية الميدان من خلال "العفوية الخلاقة" (بعلبكي، 2011) التي أبدتها الجماهير في الحفاظ على الميدان ونظافته وحمايته وتوفير مقومات الصمود من طبابة وغذاء للمحتشدين فيه، وكأن لسان حالها يقول هذا مكاننا ومجالنا الحيوي ونحن بالحفاظ عليه جديرون كل جدارة. إننا لسنا قاصرين ولا مخصيين أو فاقدين للإستحقاق بل نحن الأحق بالتواجد هنا ورعاية كياننا ومكاننا اللذين طال سلبهما منا.

تكلم بوعزيزي بلغة الحريق صارخاً: سأحرق نوعية الوجود الذي فرضتموه علينا، وبالتالي سأحرق نظامكم وأبطل فاعليته المتمثلة ببسط التسلط والقهر والهدر والحرمان والمهانة وفرض الرضوخ والموت الكياني. لقد تكلم بلغة الحريق الذي هو جهنم وهو المطهر في الآن عينه. هذه الدلالات في فعل بوعزيزي الكارثي شكلت الصاعق الذي فجر جحيم الجماهير الذي طال أمده وبدا كأنه القدر المفروض الذي لا راد له. ومع هذا التفجير تحركت طاقات الحياة في الميادين والساحات والشوارع وإنتشرت بمثابة التفجير الذري الذي يتوالد بشكل متعاظم سيغير دلالة الوجود والمصير، أياً كانت التطورات التي ستؤول إليها هذه الثورات.

شكل الشباب الدينمو المحرك للثورة. قادوا عملية التعبئة والحشد من خلال إمتلاكهم ناصية تقنيات الإيصال والإعلام الإجتماعي الفلتة من كل الرقابات التقليدية. إنهم شباب الطبقات الإجتماعية الميسورة الذين تعرضوا لعملية طويلة الأمد من تسطيح الوعي والصرف عن القضايا الوطنية من خلال إستراتيجية "رضاعة التسلية" التي إبتدعها بريجنسكي لإلهاء الشباب ودفعهم إلى متع الفرجة والإثارة وملذات الحاضر الحسية (حجازي، 2005). وهم الشباب الذين طالما أخذ عليهم الكبار إنعدام جديتهم ومسؤوليتهم، مع أن هؤلاء الكبار أنفسهم هم من يمتلك قنوات التسلية الفضائية ويشغلها. وذهب إتهام الكبار لهم إلى حد القول بأنهم جيل طفيلي لا يرجى منه خير، فإذا بهم يفجرون طاقات الحياة الشابة دفاقة متحفزة بلغت درجة من القدرة والإلتزام والعفوية الخلاقة أذهلت هؤلاء الكبار. إن الشباب من حيث التعريف ينشد الإثارة والمغامرة والمخاطرة والحماس ومتع الحياة تلبية لنداء طاقات الحياة لديه، وإشباع نهم إمتلاء الوجود. ولقد كانت إستراتيجية "رضاعة التسلية" تركز على هذا التوق إلى إثارة الحياة لديهم، فاعتقد الكبار أن وجودهم كله يختزل في هذا التوق. والواقع أن الإقبال على الحياة لم يلغ لديهم مخزوناً كامناً من الإلتزام بقضايا الأمة والمصير، كما لم يعطل طاقاتهم على العطاء بدون حساب. فكما يبحث الشباب عن الإثارة ومتع الحياة، فإنه وبنفس القدر يندفع إلى العطاء والتضحية والبذل بدون حساب حين يجد الجد؛ أو ليس جل جمهور الثورات عبر التاريخ من الشباب أساساً؟

لقد إنقلب السحر على الساحر من خلال الإستخدام المبتكر لتقنيات الإعلام الإجتماعي (الفايس بوك وأخواتها)، والتي تم تطويرها في الأصل بمثابة أدوات تواصل إجتماعي يتوخى المتعة والتسلية وحب الظهور. من المعروف أن الفايس بوك تحديداً والذي شكل أداة التواصل والتعبئة الأساسي بالصورة والنص إنتشر بين الشرائح الشبابية والسكانية التي تملك وسائله، بمثابة أداة إستعراض إجتماعي للنرجسية الذاتية: إستعراض الأخبار الإجتماعية اليومية الشخصية بغية البحث عن الظهور والبروز والمباهاة، وسرد أحوال حظوظ العيش. وهو ما يدخل في جله ضمن إستراتيجية الإلهاء وتسطيح الوعي ورضاعة التسلية، والدفع إلى العيش على مستوى الواقع الإفتراضي بدلاً من التفاعل الإجتماعي المباشر، والمشارك في قضايا الوطن. تحولت هذه التقنيات على يد الشباب، وبعملية إبداعية حقيقية، إلى أكثر أدوات الكشف والفضح لممارسات الإستبداد فاعلية وتأثيراً، حيث تحولت إلى بناء الذكاء الجماعي الذي يتجاوز كل من محاولات القمع والمنع والسيطرة من قبل هذه السلطات. وبالطبع لم يقتصر الأمر على الفضح المحلى والتعبئة والحشد المحليين وإنما تعمم على محمل الشبكة المعلوماتية التواصلية التي تغلف الكوكب وتصل أجزائه بعضها ببعض في التو واللحظة، مما شكل وسيلة للحماية والوقاية وكسر جدران التعتَيم، وأعلى من زخم القضايا المحقة في التحرير من القهر والهدر وإسترداد الكرامة. لقد كان إبداعاً فعلياً من قبل الشباب العربي أقر العالم أجمع بإمكانية التعلم منه والإستفادة من فاعليته. وظف الشباب هذه التقنيات لحشد الجماهير وتعبئتها بشكل غير مسبوق، ولا يضاهي بوسائل التعبئة والحشد التقليديين التي توسلتها تاريخياً الأحزاب والحركات السياسية. وبذلك إستهل الشباب تاريخاً جديداً في صناعة التحولات الإجتماعية، سيتكرس في المقبل من الأيام في كل حركات التحرر من القهر والهدر وإسترداد الكرامة، وإنتزاع الإنسان للإعتراف بإنسانيته. تفاجأ الكبار بزخم الأحداث وتسارعها، وحجم التعبئة والحشد والتأثير، فأسلموا زمام القيادة للشباب فرحين مستبشرين بإنبلاج الفجر بعد ليل القهر والهدر الطويل. وتسابق الكبار، حتى المرجعيين منهم، إلى الإلتحاق بالركب وعيش هذه اللحظات ذات الزخم التاريخي غير المسبوق. أقر جميع الكبار بإنتهاء مرجعيتهم، وحتى بقصورهم؛ ولا زالت ماثلةً صورة ذلك المسن التونسي يصرخ ممرراً يده على شعره الأبيض: لقد هرمنا، لقد هرمنا ونحن ننتظر هذه اللحظة، مع الإمتنان للشباب اللذين أتاحوا ظهورها له.

قد يكمن أحد أسباب تمكن الشباب من قيادة الثورة في كونهم لم يتم تدجينهم على غرار جيل الكبار. إستراتيجية الإلهاء ورضاعة التسلية هي التي اتبعت معهم بغية تحييدهم وإبعادهم عن الشأن العام ولحسن الحظ فإن مشغلي هذه الإستراتيجية من المستبدين وأدواتهم الإعلامية الإلهائية لم يتنبهوا إلى حقيقة فعلية هي أن الشباب يضح بطاقات الحياة الوثابة بين جوانحه، ويتطلع إلى البذل والعطاء، بقدر ما يبحث عن المتعة والإثارة. وأنه في صميم كيانه، ودخيلة نفسه يتوق إلى الدخول إلى الساحة والحيز العام ولعب الدور النشط المشارك في صناعة المستقبل والمصير، بعد طول إقصاء من خلال القيادات التي هرمت، وتمسكت بتأزيل وجودها، وحصرية إحتكارها للحيز العام. في البلاد المتقدمة التي تعترف بتجدد دماء الحياة وحيويتها يتم قتل الأب رمزيا، بمعنى أن جيل الشباب يتجاوز جيل الكبار في عملية نماء مستمر. وهكذا ترى ان قادة السياسة والمال والاعمال هم في جلهم من الشباب الذي يبتدع دوما سبلا جديدة وتقنيات جديدة ورؤى تتجاوز الماضي التقليدي. أما في أنظمة الاستبداد فيتم تأزيل جيل الكبار المستبدين، ما يعيق تجدد الحياة ونمو حيويتها. إنهم يقتلون الأبناء من خلال تهشيمهم وإقصائهم وإتباعهم مما يتعارض مع قانون الحياة ذاتها المتمثل بإنطلاق الطاقات وتجديدها. إلا أن الحياة عنيدة وثابة، قد تكمن بعض الوقت، إلا أنها لا بد أن تنطلق وتفرض حيويتها. تلك هي ثورة الشباب الذي يأبى أن يقتل دورا ومكانة. تحرك دينامية الشباب، أطلق ثورة الجماهير التي دفعت إلى مراكمة جحيمها الكياني، الذي جسده بو عزيزي في صرخة إشعال النار في جسده. إنفجر بركان الجماهير الذي طال إحتقانه. إلا أن هذا الانفجار ليس مجرد رد فعل سلبي على القهر والهدور والمهانة والحرمان، بل هو في المقام الأول إنطلاق طاقات الحياة لديها والتي طال قمعها وتنوعت أساليب الحرب عليها.

العلاقة ما بين الخبز والكرامة ليست علاقة مضاف ومضاف إليه، وإنما هي تعبير عن المطالبة بحق الكيان الكريم بجميع أبعاده. حشد الجماهير المحرومة المطالبة بالخبز يلتقي مع ثورة الجماهير المطالبة بالحرية وحق الحضور والقول والفعل. ذلك أن الحرمان من الخبز المعبر عن ما دون خط الفقر، هو في الواقع دفع الإنسان إلى ما دون خط البشر. وبذلك تلاقت كرامة المطالبين بالحرية، والمطالبين بالخبز في هذه الثورة التي إنخرط فيها الجميع كبارا وصغارا، نساءا ورجالا. الكل يطالب بإستعادة كيانه المهدور من خلال المطالبة بالحقوق وإشباع الحاجات والحضور. الحماس منقطع النظير، وفرحة الحياة الكبرى التي دبت في الجماهير، والدرجة الأكثر رقيا في تلاحمها على إختلاف فئاتها، ومسارعة الكل إلى المشاركة في الحضور في الميادين والساحات، كلها تعبيرعن إنطلاق طاقات الحياة المعطاءة، المتضامنة، المستعدة للتضحية ودفع الثمن الغالي من أجل إسترداد حق الوجود الذي طال تغييبه. لم يكن هناك حزب قائد، ولا زعيم ملهم، ولا برنامج سياسي مرجعي، بل هي العفوية الخلاقة النابعة من إنطلاق طاقات الحياة، والتي دفعت كل المرجعيات السياسية والفكرية والحزبية التقليدية للإلتحاق بها والإنضواء تحت لوائها. أذهلت هذه العفوية الخلاقة كل المراقبين والمنظرين في قدرتها على التنظيم وتوفير كل مقومات الحماية والرعاية والعناية الصحية للمحتشدين والحفاظ على الأمن العام، وصيانة الميدان الذي عاد إلى أصحاب الحقوق الطبيعية فيه. فاجأت تجليات طاقات الحياة هذه الكل، بحيث أمست أنموذجا سارع الجميع إلى التعلم منه. فرضت الجماهير إرادتها في الحياة من خلال حشودها ونضالاتها ومطالبها بإسقاط النظام. ليس الأمر قضية تنحي هذا أو ذاك من المتسلطين الذين أزلَوا إستبدادهم وإنما هو إنتزاع حق الكيان من خلال إصرار الجماهير وتضحياتها وكسر المعادلة التي دامت طويلا والمتمثلة في تنافي وجود الحاكم والمحكوم والسلطة والشعب. أسس المستبدون وجودهم على إلغاء الشعب بمختلف فئاته وشرائحه، ولو أن هذا الإلغاء اتخذ عدة أشكال تبعا لشروط وجود كل فئة. ولذلك إستردت الجماهير وجودها من خلال فرض إلغاء النظام: على النظام أن يرحل حتى تتوفر لنا شروط الوجود.

لطالما عملت أنظمة الإستبداد التي حولت الكيانات الوطنية إلى مجرد ملكيات خاصة، من خلال إتباع توجيهات الأدب السلطاني: "على الحاكم أن يحذر الدهماء لأنها إذا إستطاعت أن تقول، قدرت ان تصول" أي ان تهدد وجوده ذاته. صادرت سلطات الإستبداد حق القول و التجمع والفعل. منعت الكلام وفرضت تلقائيا الموت الوجودي على جماهير المواطنين، تبعا لصيغة لاكان الشهيرة التي جعلها تلميذه صفوان عنوانا لكتاب فائق الغنى والعمق: "الكلام أو الموت" (صفوان،2008). إنها معادلة جامعة فإما أن يكون هناك حق قول وكلام وحوار ملىء وذي معنى وملزم، بين الحاكم والمحكوم وإما ان يتفجر العنف المدمر بينهما. الموت في حالة جماهير الأمة هو موت وجودي، ولو أنه عبر عن ذاته في إنتفاضات وإحتجاجات ومطالب كانت تقمع على الدوام ويفرض عليها الصمت. إستردت جماهير الثورة حق الكلام من خلال كسر الصمت ، وهدم جدران الخوف، وإنتزعت بالتالي حق الوجود وصناعة المصير. قد تكون معادلة "الكلام أو الموت" هي التي شكلت القاسم المشترك بين جميع الشرائح المشاركة في الثورة: الشباب والشابات، الرجال والنساء، المفكرون وأصحاب المهن الحرة، مختلف الطوائف والمذاهب، كلها رفعت الصوت عاليا ومارست لغة القول والفعل من اجل إسترداد حق الوجود.

فوجئت سلطات الإستبداد وأجهزتها القمعية بزخم هذه الثورة ومداها وإصرارها على القول والفعل وإستعادة ملكية الحيز العام. وأسقط في يدها بعد محاولات البطش التي فشلت في قمع الجماهير، وفرض موات الصمت عليها. لقد أنست إلى فاعلية التخويف والإرهاب المزمنين، وظنت ان الجماهير قد إستكانت ورضحت لقدر مفروض لا راد له. إلا انها لم تحسب حسابا لطاقات الحياة التي يستعصي القضاء عليها، ولو فرض عليها الكمون زمنا يطول أو يقصر. وقعت سلطات الاستبداد في خطأ حيوي إذ اعتقدت أن آلية التخويف والقهر والهدر هي الوحيدة الفاعلة حياتيا، مما يتنافى مع مبدأ الحياة ذاتها، وأنظمتها الحيوية الثلاثة الموجهة للسلوك.


 

لقد اكتشفت الأبحاث البيولوجية النفسية أن هناك ثلاثة أنظمة حيوية عصبية مستقلة عن بعضها البعض توجه السلوك، بحيث أن إشتغال أحدها لا يلغي وجود الآخر الذي يظل في حالة كمون. أولها هو الجهاز الميسر للسلوك والذي يرتبط بتفعيل طاقات الحياة و النماء والتوسع والتمدد والإقدام والمواجهة والمغامرة. إنه الجهاز الذي يتيح النماء والسيطرة على البيئة، كما يتيح البناء والتواصل والترابط، وهو الأقرب إلى نزوة الحياة التي قال بها فرويد (لابلانش،2011). ينشط هذا النظام من خلال نشاط الموصل العصبي المعروف بإسم "دوبامين" المسوؤل عن حالة الحماس والنشوة والشعور بالتوسع والقدرة والإقدام، مما يتجلى في لحظات الإنتصار وما يرافقه من حماس وشعور بالنشوة. ويقابله الجهاز الذي يصد السلوك ويكبح المواجهة و المجابهة، ويفرض الهروب أو التجنب والاستكانة بمثابة آلية دفاعية حيوية في مواجهة الاخطار المهددة للحياة والتي تتجاوز القدرة على التعامل معها. إنه نظام الحماية من خلال إيثار السلامة. وهو ينشط من خلال الموصل العصبي المعروف بإسم "نور أبينفرين" وهو الذي يولد حالة الخوف و القلق حين ينشط. وأما الجهاز العصبي الحيوي الثالث فهو النظام الذي يعقلن السلوك ويوازنه من خلال حسن تقدير معادلة القوى الذاتية في مقابل التهديدات و الأخطار. يحول دون الإنخراط في مغامرات مؤذية أو مهلكة، في الآن عينه الذي لا يدع الكائن الحي يستسلم للخوف وسلوكات التجنب وإيثار السلامة. ويقوم بتنشيطه الموصل العصبي المعروف بإسم "السيروتونين" الذي يدفع بإتجاه العقلانيه و الاعتدال (2004،Carr).

راهنت سلطات الاستبداد وأجهزتها القمعية على الجهاز الثاني ( الخوف والتجنب) بفرض الاستكانة على جماهيرها. وإعتقدت ان هذه الآلية الحيوية هي الوحيدة الفاعلة. وغاب عنها أن نظام تيسير السلوك المرتبط بانطلاق الطاقات الحية موجود وقابل للتحرك والنشاط في حالة من فرض الحياة لذاتها ولو كمن طويلا. وأنه لابد أن يتحرك ويكف عمل نظام الخوف والإستكانة حين تسنح الفرصة. الثورة والتعبئة والحشد وتشغيل آلية التآزر والتعاضد وإطلاق القوة الفردية من خلال الذوبان في الجماعة، أعادت تشغيل نظام تيسير السلوك، حيث تحققت إنجازات لم تكن تخطر في البال، أدت إلى فرض الحياة لذاتها وإنطلاق طاقاتها الوثابة مع مشاعر الإحساس بالوجود. إشتغل نظام التمدد والسيطرة والنماء، ولو أن الثمن كان باهظا. ذلك هو تفسير مشاعر الاعتزاز والنشوة والقوة التي عمت الجماهير الثائرة في الميادين والساحات والمدن والأرياف. إنه إنتصار الحياة الذي عبر عنه ذلك المصري الذي قال "عمري اربعين سنة ، ولأول مرة في حياتي أشعر أنني رجل". وذهبت أقوال الشابات (السافرات منهن كما المحجبات) المذهب نفسه في التعبير عن الإحساس بالكيان الحي و الحضور المؤكد لذاته.


 

التحولات الثقافية:

مهما عسر المخاض وتعرقلت مسيرة الثورة في تحقيق أهدافها، فإن واقعا جديدا قد ولد في العالم العربي، هو بصدد التوسع والانتشار في حركية تاريخية غير قابلة للإجهاز عليها، ولو ربحت أنظمة الإستبداد الجولة في موقع أو آخر. فبسقوط جدار الخوف الناجم عن إيقاف نشاط نظام الرضوخ والتجنب وآلية الاحتماء، بفضل تشغيل نظام تيسير السلوك وإطلاق طاقات الحياة والنماء، إنتزعت الجماهير القدرة غلى القول والصول محولة أنظمة الاستبداد إلى موقع الدفاع، ولو أنه اتخذ طابعا مفرطا في عنفه وشراسته. أرسي هذا الواقع الجديد عددا هاما من التحولات الثقافية التي تستحق التوقف عندها. ونقصد بتعبير "الثقافة" في هذا المقام المعنى الانتروبولوجي للكلمة، مما يتمثل في المرجعيات والمعايير السلوكية، ونظم القيم الموجهة للرؤية والفكر، والأدوار والتفاعلات والممارسات، ونظم التقنيات والمعتقدات. وهي تحدد في مجموعها المتفاعل والمتكامل، نظرة الجماعة إلى ذاتها وإلى عالمها، مما يحدد خياراتها وممارساتها، بمثابة بنية فوقية موجهة.

  • التحول الأول والأساس هو تمكن الشعب( المصري خصوصا) من إسقاط فرعونه لأول مرة منذ خمسة آلاف عام، وكسر بنية الإستبداد التاريخية. هذه البنية كرسها الموروث الثقافي الديني منذ بروز الإسلام السياسي؛ من خلال إختزال النصوص والدعوة إلى أخلاق الطاعة وفرضها على العامة والخاصة سواء بسواء ( الجابري،2001). فالسطان لا شريك له، ومادونه مراتب تبعا لدوائر القرب أو البعد عن السلطة. إلا أنهم كلهم سواء إزاءه، كما يدعوا إليه الأدب السلطاني. لأول مرة يكسر الشعب أصنامه ويسقط فرعونه بدون بطل منقذ يقود عملية الكسر ويرفع الغبن عن الجماهير. لأول مرة ينتزع الشعب المرجعية، وتصبح سلطته هي المعيار. إن إسقاطات هذا التحول الثقافي البنيوي أبعد بكثير مما قد يبدو لأول وهلة، إذ أصبح الإنسان مرجعية ذاته، والجماعة مرجعية ذاتها. كسرت مع إسقاط الفرعون أخلاق الطاعة التي تختلف جذرياً عن "أخلاق التوافق". ومع كسر أخلاق الطاعة الأبعد دلالة وتأثيراً من مفهوم الحرية السياسي، الذي يحتمل التأويل والإجتهاد، يفتح السبيل أمام إنطلاق طاقات الحياة ومرجعيتها، ويفك أسرها وإرتهانها لإرادة فوقية كلية الجبروت تفرغ كيان التابعين من كثافته تجاه الفرعون.

تكرر هذه البنية ذاتها في سلسلة من الفراعنة الصغار اللذين تقتصر العلاقة معهم على أخلاق الطاعة المسنودة بسلطان الغيب الديني. لأول مرة أصبحت الثورة التي أسقطت الفرعون تطالب السلطة السياسية الحاكمة بتسريع إجراءات الإصلاح والقضاء على الفساد ومحاكمة من اعتدوا على الشعب، وإسترداد حقوق الوطن التي سلبت. أصبحت الإرادة الأساس هي إرادة الشعب، مما يشكل تحولاً بنيوياً جذرياً لا مجال لإلغائه أو تجاوزه. هذا التحول الثقافي سوف يفتح الباب أمام إنطلاق طاقات العطاء والنماء النابعة من الكيان الذاتي، مما يشكل أهم ضمانات حصانة المجتمع وإقتداره ويكرس عافيته.

  • أدى هذا التحول الرئيس إلى تحول ثقافي آخر يتمثل في كسر البنية البطريركية المهيمنة على نظم العلاقة والتفاعل في المجتمع. هذه البنية هي نسخة معدلة من الفرعنة تفرض أخلاق الطاعة وسماع الكلام (كما يقول شرابي) لقاء الرعاية والحماية. تتكرر في علاقات الرؤساء بالمرؤوسين، والآباء بالأبناء، والإناث بالذكور. البنية البطريركية تتمثل في قتل الأب للأبناء من خلال إتباعهم وسلبهم إرادتهم ومرجعيتهم. أبرز ما يميز الثورة هو التحول من العلاقات العامودية الفوقية إلى العلاقات الأفقية التشاركية في حالة من المساواة ما بين الرجل والمرأة والشاب والشابة الذين أسهموا في نفس القدر والفاعلية في قيادة الثورة وتوفير مقومات نجاحها. حتى المحجبات والمنقبات أسهمن بالزخم نفسه، مما يفتح الباب أمام تحرر فعلي للمرأة طال نضالها من أجله. لم يقتصر الأمر على كسر البنية البطريركية، وإنما تجاوزه إلى قلب حقيقي للأدوار حيث أصبح الشباب هم المرجعية. وحيث سلم الكبار لهم بهذه المرجعية حين أرتضوا لأنفسهم دور التابع أو المواكب على الأقل. هذا التحول الثقافي كفيل بأن يفتح الباب لنمو الديموقراطية الأصيلة، والتي طال تغني مفكرينا بها ومطالبتهم بقيامها. لا يمكن قيام ديموقراطية سياسية ومجتمعية حقيقية من خلال الإقتصار على المطالبة السياسية، لأن رسوخ العلاقة البطريركية في النسيج الإجتماعي سوف يفقدها فاعليتها؛ بحيث لا يندر أن تتحول إلى مجرد شعارات شكلية. هذا التحول الثقافي الثاني سوف يؤسس، إذا أحسن إستثماره، لنهضة مجتمعية حقيقية تقوم على إطلاق الطاقات الحية والمبادرات من موقع تحرير الإرادات.

  • يندرج التحول الثقافي الأساس الثالث عن سابقيه، مما يتمثل في "العفوية الخلاقة". لأول مرة تحدث الثورة بدون حزب قائد أو زعيم تاريخي، وبرنامج سياسي مقرر مسبقاً، ومرجعية فوقية تعبئ الجماهير وتقود نضالاتها. إنها القيادة الجماعية الأفقية التشاركية الشبابية والجماهيرية. ليس هناك قائد منقذ أو رئيس ملهم. وليس هناك تنظيم طليعي يخطط ويقرر ويجر الجماهير وراءه مزيناً لها الفردوس، أو إستعادة الفردوس المفقود. الأحزاب والتنظيمات النقابية منها كما السياسة التحقت بالركب ولم تقوده. إنها القيادة الجماعية عابرة الطبقات والإنتماءات والظروف الكيانية، أبدعت هذه العفوية الخلاقة في التعبئة والتنظيم والمشاركة والحماية والرعاية. الجماهير قائدة نفسها وسيدة ذاتها، بدون مراتب أو رتب حزبية أو تنظيمية، فتحت السبيل أمام تجلي كل طاقات الحياة والعطاء، مما يبشر بالتحول من اليأس والتشاؤم ومشاعر العجز التاريخي، إلى الأمل الفاعل المبادر والمدبر والمثابر وصولاً إلى تحقيق الأهداف الكبرى، وإطلاق الفاعلية الذاتية والجماعية وإستعادة الثقة المفقودة بالنفس، والتي طالت مصادرتها: أنه المدخل لبناء الإقتدار.

إن العفوية الخلاقة، التي لم يكن لها مرجعية مركزية فوقية، قادرة على إبتداع أطر بديلة للتقرير والتسيير، وعلى إفراز قيادات تخرج في نوعيتها ومقارباتها عن التقليدي الذي يكرر السير على الدروب الممهدة. لقد أصبحنا أسرى في تفكيرنا للصيغ النمطية: قيادة رائدة وجمهور تابع، والتي تكرر العلاقات الفوقية الإتباعية. وهو ما يتجلى في ذلك التوجس المألوف والشائع من غياب القيادة المركزية/ المرجعية، الذي يتردد عند الكثيرين ويدفع بهم إلى الخشية على ثورة الشباب التي تفتقد الأبوة الأحادية. هناك دوماً مجال لإبداع صيغ مبتكرة في القيادة والتسيير، كما يعلمنا علم البدائل. وهناك دوماُ إمكانات وفرص غير منظورة قد تكون أكثر فاعلية من التقليدي الذي يكرر ذاته. هكذا تجدد الحياة ذاتها فاتحة مجالات غير مسبوقة في النماء والبناء. كل الإبداعات الكبرى في التاريخ وفي مختلف المجالات قامت على التجرؤ على خوض غمار المجهول والتجاسر على الإقدام على غير الأكيد. هناك بالطبع أخطار ممكنة، إلا أن هناك في الوقت عينه إمكانات غير مسبوقة في الإنجاز والنماء: فمن يجرؤ يكسب.

  • يشكل توظيف الإعلام الإجتماعي في الثورة التحول الثقافي الرابع. يتكون الإعلام الإجتماعي من برامج التواصل التفاعلي على الإنترنت من مثل المدونات على إختلافها، والفايس بوك التي يعرض فيه كل مشترك أخباره وصوره ومناسباته كي يطلع عليها المشتركون الآخرون ويتفاعلون معها، والتويتر الذي يتمثل في رسائل نصية قصيرة متنوعة الموضوعات تلقي إجابات من المشتركين، وكذلك تبادل الفيديو على اليوتيوب. كسر هذا الإعلام الإجتماعي الإحتكار الإعلامي الرسمي ونسف قيود المنع والحظر والإنتقاء والتلاعب بالأخبار من قبل الوكالات الرسمية أو الخاصة (التحجيم، التضخيم، التكرار، التحريف، التوكيد والتهميش). حرر الإعلام الإجتماعي جمهور المشتركين والجمهور عموماً من التواصل الفوقي أحادي الإتجاه الذي يرمي إلى التلاعب بالعقول وإدارة الإدراك بما يخدم السلطات الرسمية أو المالية، إلى تواصل أفقي تفاعلي يتساوى فيه الجميع، بحيث يصبح كل فرد مرسل ومستقبل ومحاور مشارك في آن معاً وصولاً إلى صناعة المواقف والقرارات، مما يشكل ولوج مرحلة ديموقراطية الإعلام فعلياً. وهو ما يضفي الشفافية على المادة الإعلامية. والأهم من ذلك أن الإعلام الإجتماعي، في سرعة تناقل الأخبار والصور التي يوفرها، أسس لقيام الذكاء الجماعي Intelligence Collective الذي وفر وسائل التعبئة والحشد الجماهيري وإستقطاب التأييد والمشاركة محلياً وعالمياً (حجازي، 2000).

قام الإعلام الإجتماعي، كما تدل عليه صفته، في الأصل لأغراض التسلية والتواصل الإفتراضي والتشارك في الأحوال الشخصية. إلا أنه وظف وبشكل فاجأ الجميع في خدمة الثورة كشفاً وفضحاً ومشاركة وحشداً وتحريكاً. ويعود ذلك بالأصل إلى المدونات Blogs قديمة العهد نسبياً على الأنترنت والتي احتلت في الأساس مكانة هامة في الإعلام الإجتماعي نظراً لطابعها الذي يهتم بالقضايا العامة وكشف المستور منها، وخلق منتديات حوار لنقاشها وتبادل الآراء بصددها (العياضي، 2009). ومن المعروف أن المدونين قد كفروا بالتضليل الإعلامي الرسمي المصور و المكتوب، وتعرضوا من خلال التجرأ على الكشف و الفضح لحملات شرسة من الملاحقة والسجن والمنع.

فوجئت سلطات القمع المحلي بقدرة وفاعلية الإعلام الإجتماعي في التحريك الثوري، كما فوجئت الأوساط العالمية به و أخذت تسير في ركابه لخدمة مصالحها. كما أن سلطات الإستبداد أخذت تتبع ثورة الإعلام الإجتماعي الشبابية، من خلال خلق مواقع فايس بوك تروج لها ولطروحاتها. هذا التوظيف الثوري أدخل مجتمعاتنا في مرحلة حضارية جديدة على الصعيد الإعلامي المنفتح والمشارك والمتفاعل، مما يشكل ضمانة لعدم وقوعها من جديد في التضليل الرسمي. أصبح المواطنون هم الحاضرين وهم صانعي الأحداث، متحررين بذلك من مختلف حالات الإرتهان. وهو تحول ثقافي لا عودة عنه، ولا مجال لضبطه او منعه. إنه التحرر من أسر التجهيل والإتباع وصولا إلى الإخضاع.

  • هناك تحولات عديدة اخرى سياسية وإقتصادية، لن نخوض فيها لأنها جد معروفة. أهمها التحول من حصرية المطالب إلى كيانيتها: ليس خبزا فقط وإنما كرامة عيش وحرية سياسية وفكرية، وحق في الإعتراف بإنسانية المواطن التي طال إلغاؤها. جرت العادة تقليديا أن تتظاهر الجماهير من أجل مطالب معيشية أو سياسية على إختلافها، ترفع إلى السلطات لتحقيقها وإنصاف الناس. وإذا بالأمر يتجاوز المطالب إلى المساءلة، ومنها إلى التغيير الجذري. وهناك فارق جوهري ما بين مطالب محقة تُدعى السلطة إلى تلبيتها، وبين مساءلة السلطة ذاتها. في الحالة الأولى السلطة ليست موضع تساؤل، أما في الثانية فإن الجماهير تسترد مرجعيتها الطبيعية في الحكم على ممارسات السلطة. ذلك تحول ثقافي سياسي من التسليم بحكم السلطة إلى مساءلتها حول شرعية ممارساتها، وصولاً إلى التشكيك بشرعية وجودها ذاته التي فقدتها بسبب الإستبداد والنهب. بذلك تخرج جماهيرنا من مرجعيات الأدب السلطاني التي إستحكمت فيها عقوداً طويلة، بل قروناً مديدة (ليست الشكوى من السلطان ذاته، وإنما من جور أدواته وفسادها). وبذلك تنتزع فرض الإعتراف بإنسانيتها بإعتبارها مصدر كل السلطات، والحكم على ممارساتها.


 

*


 

تلك أفكار وليدة مقاربة نفسية وجودية، تردف سواها من خلال المقاربات الأخرى، ضمن نموذج الدراسة المعقد والمتكامل، وتغني الصورة العامة التي لا زالت قيد التكوين والتطور. وبالطبع فإن التوجسات حول مصير الثورة مشروعة، بل وحتى ضرورية، مما يساعد على ممارسة اليقظة الذهنية وعدم الغرق في الرومانسية الوردية، الأبعد ما تكون عن الواقع وما يحمله من تحديات، ومقاومات جدية من قبل القوى المضادة للثورة. إلا أن ما هو أكيد ويمثل ضمانة لبناء المستقبل هو أن التحولات الثقافية التي عرضنا لبعضها، وهناك العديد غيرها بلا شك، سوف تشكل مرتكزاً ذا شأن في عملية صناعة المستقبل الذي يستحقه إنساننا عموماً، وأجيالنا الطالعة على وجه الخصوص.

يعلمنا التفكير الإيجابي في التعامل مع قضايا الدنيا أن نفتش عن الإيجابيات ونٌعظمهٌا، في الآن عينة الذي نتلمس السلبيات ونعمل على علاجها والوقاية من مترتباتها. بذلك وحده نضمن إعطاء الثورة وتضحياتها لثمارها. علينا خصوصاً التنبه إلى الميل العفوي في آليات تفكيرنا إلى إلتقاط السلبيات وإبرازها، مما يشيع في تعاملنا مع وقائع الحياة، وأن نقاوم هذه النزعة التي تخلق نوعاً من العدوى الفكرية. التنقيب عن الإيجابيات يحتاج إلى جهد واع ومقصود، حيث أنها قد لا تكون بادية للعيان لأول وهلة، إذ تدفع بها السلبيات الأسهل بروزاً إلى مؤخرة الوعي الفكري. إلا أن الإيجابيات وحدها هي التي تفتح آفاق المساعي والسير على درب تحقيق الأهداف.

على شبابنا وجماهيرنا الإصرار والمثابرة والقناعة بفاعليتهم الذاتية وفاعلية القوى الحية في مجتمعاتنا. وعلى مفكرينا وباحثينا تقع بالتالي مهمة اليقظة الذهنية، والتنقيب عن الإيجابيات في هذا المد الثوري، وتثميره ليس سياسياً فقط، وإنما في عملية تغيير شاملة أصبحت في غاية الإلحاح، إذا أردنا صناعة مكانة لنا في هذا العالم ذي التغير المتسارع.

النشرة: 

المواضيع: 

علِّق

Filtered HTML

  • تتحول مسارات مواقع وب و عناوين البريد الإلكتروني إلى روابط آليا.
  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a> <em> <strong> <cite> <blockquote> <code> <ul> <ol> <li> <dl> <dt> <dd> <p>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Empty paragraph killer - multiple returns will not break the site's style.
  • The Lexicon module will automatically mark terms that have been defined in the lexicon vocabulary with links to their descriptions. If there are certain phrases or sections of text that should be excluded from lexicon marking and linking, use the special markup, [no-lexicon] ... [/no-lexicon]. Additionally, these HTML elements will not be scanned: a, abbr, acronym, code, pre.

Plain text

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تتحول مسارات مواقع وب و عناوين البريد الإلكتروني إلى روابط آليا.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • The Lexicon module will automatically mark terms that have been defined in the lexicon vocabulary with links to their descriptions. If there are certain phrases or sections of text that should be excluded from lexicon marking and linking, use the special markup, [no-lexicon] ... [/no-lexicon]. Additionally, these HTML elements will not be scanned: a, abbr, acronym, code, pre.
CAPTCHA
This question is for testing whether or not you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.